فكرة الإنسان كقيمة والتي أدافع عنها في كل ما أكتب، تضعني في مواجهة وعلى خطوط المجابهة المتقدمة مع حركات الإسلام المتطرف التي انتشرت في أوروبا، ووجدت لها معاقلاً وحصوناً آمنة بفضل دول المؤسسات والقوانين التي يسعى المتطرفون أنفسهم إلى هدمها، وهم يدعون «إخراج الناس من الظلمات إلى النور!».في مدينة «غنت» التي أعيش بها، معلم تاريخي حي، وهو سوق الجمعة، الذي لم يتوقف منذ أكثر من مئتي سنة، وهو سوق مفتوح يقام كل جمعة في كل الفصول.

قبل سنوات، كنت أتجول في السوق، لأرى الناس منزعجين من بائع عربي مسلم بلحية كثة وهو يعرض بضاعته، وقد شغل بصوت عال ومرتفع تسجيلاً للقرآن على سماعات نصبها حول بسطته. اقتربت منه بعد تردد، وسألته بالعربية عن هدفه من ذلك، فابتسم وقال لي: لعل الله يهديهم إلى الحق. طبعاً اعترضت على سلوكه وأوضحت له أن استخدام المكبرات لأي تسجيل صوتي ممنوع بحكم القانون، فلم يعجبه كلامي، لكن البوليس المحلي أنقذ الموقف وأجبره على وقف «دفقه الإيماني».

بين الناس، كان هناك قلة من رواد السوق، شباب بلجيكيون من العرق الأبيض، واضح من الوشوم التي زينوا بها أجسادهم أنهم متعصبون لعرقهم، كنت أراهم يتجمعون بعد حادثة السوق تلك في حانات قريبة يراقبون الرجل العربي، ويتهامسون بملامح غضب واضحة. لقد قدم لهم الرجل ما يروي لهم تعصبهم الأعمى، من خلال تعصبه الأعمى نفسه. حتى سنوات مضت، كان المتطرفون البيض، والذين تسميهم الصحافة بالنازيين الجدد تحقيراً لهم، ليسوا أكثر من حثالات لا ينتبه إليها أحد من الأوروبيين، لقد كانت القيم الأوروبية تعيش أوج مجدها منتصرة بالقيم الإنسانية التي وحّدت أوروبا القارة.

كان لهؤلاء المتعصبين حاناتهم الخاصة والمعزولة، ولم يكن لهم مكان محترم في المساحات الاجتماعية المحلية في أوروبا. القيم الإنسانية الأوروبية طبقت مفاهيمها على أوسع نطاق حين استقبلت وعلى مدار عقود طويلة (قبل الأزمة السورية حتى)، لاجئين إلى القارة هرباً من البطش والحروب والاستبداد.

أتى القادمون الجدد بحثاً عن الأمن والأمان، لكن من بينهم من حمل معه تعصبه الفكري والديني مؤمناً بأنه من «الفئة الناجية» دون باقي البشر. هؤلاء بسلوكياتهم وتصرفاتهم وسعوا دائرة قبول المتعصبين البيض ضمن محيطهم الاجتماعي والسياسي، صار للنازيين الجدد منابر وأصوات عالية، بل ومسموعة، وصارت لهم أحزاب تنافس في الانتخابات، وهذا يعني قبولاً مجتمعياً ولو بمساحات ضيقة في الحياة السياسية. ومن ضفاف الذاكرة البعيدة. مرة قبل زمن طويل، عثرت في مجلة «العربي» الكويتية العريقة، على صورة عن خاطرة كتبتها السيدة فيروز في الثمانينيات من القرن الماضي، تصف فيه مشاعرها العائلية وحزنها الخاص، ولا أنسى خط يد السيدة فيروز الأنيق والجميل مستهلة خاطرتها بكلمة «عيلتنا متل التراجيديا الإغريقية..»، لتنهي السيدة فيروز خاطرتها الجميلة بجملة حاسمة عن رؤيتها للعالم بقولها: «في ناس بس ما في إنسان» أجدني أردد ما قالته السيدة همساً «في ناس بس ما في إنسان». وأجدني أمشي بقلق.. على هذا الكوكب.

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا