ما أشبه الحاضر بالماضي، وما أشبه القوى العظمى تترك جماعة «الحوثي» تسيطر على العاصمة اليمنية صنعاء بترك «طالبان» تسيطر على كابل في أفغانستان، وفي الأثناء، يبدو تساؤل الخبراء والمحللين الذي انتقلت عدواه إلى المثقفين والإعلاميين ثم إلى الشعوب: هل كل ما حدث في أفغانستان كان مؤامرة تم طبخها في الدوحة بين أميركا و«طالبان»، أم أن ما حدث كان مجرد قرار أميركي متسرع بالانسحاب لعدم جدوى بقاء الجيش الأميركي كل هذه المدة واستنزاف الموارد دون تحقيق أية نتائج على الأرض؟
قد يكون هذا السؤال الوحيد الذي يجب أن لا ننتظر الحصول على إجابة عليه، لأن النظر إلى ما حدث فجأة في أفغانستان وارتفاع عدد الدول التي لها مصلحة في سيطرة «طالبان» على كامل الأراضي الأفغانية، وارتفاع عدد الدول التي لديها مخاوف كبرى في وجود طالبان تحكم وتسيطر على أفغانستان سيجعل من انتظار الإجابة على ذلك السؤال مجرد مضيعة للوقت، فإيران وحدها تريد طالبان ولا تريدها، تريدها لتشكيل ذلك الحلف مع الصين وروسيا الذي يستثمر في الخروج الأميركي المبكر لبناء جبهة موحدة قادرة على مواجهة أميركا لاحقاً، وفتح وتعبيد «الحزام والطريق» الصيني وتمكين بنيته التحتية، ولا تريدها لأن اشتعال حرب أهلية أفغانية قد يتحول إلى خطر استراتيجي على حدود إيران، إضافة لعدم وجود ضمانات حول النوايا التركية التي يقال بأنها تنفذ أجندة أميركية، كذلك عدم تأكدها أن الدعم السابق لـ«طالبان» سيثمر في علاقة استراتيجية مستقرة.
الهند أيضاً تريد «طالبان» ولا تريدها، فهي من ناحية تعلم أن سيطرة «طالبان» على كابل تعني أنها يجب أن تتدخل عسكرياً وتحاول بيديها وأسنانها هزيمة «طالبان» ولديها مئات الأسباب التي تمنعها من التدخل العسكري، ومن ناحية أخرى ترى سياسياً أنه من الممكن أن تلتزم «طالبان» بنهج غير متشدد، ما يمنع وقوع حرب أهلية ويحقق بعض المظاهر التي ترى أميركا أنه يمكن تحقيقها كإفساح المجال للاعتراف بحكومة كابل «الطالبانية» مقابل الحريات والديمقراطية، وهو أمر مستبعد في المرحلة الحالية، بناء على التجربة السابقة لطالبان (1996-2001).
الصين بدورها تريد «طالبان» ليس لأنها واقع محتوم فقط، بل لأسباب أخرى من ضمنها احتمال صفقات تبادل مصالح كبرى في المستقبل القريب، سواء علاقة «طالبان» بالحركة الأويغورية في تركستان الشرقية واهتمام الصين بأن لا تقدم «طالبان» لهذه الحركة أية دعم سياسي وعسكري، وأن لا تسمح للحركة بشن هجمات من الأراضي الأفغانية، وكذلك الصفقات الاقتصادية في دخول التنين الصيني لإعادة إعمار أفغانستان وبناء طريق «كابل-بيشاور» بين باكستان وأفغانستان و«ممر واخان» والتي تحظى بالأولوية القصوى للسياسات الصينية الاقتصادية، وأيضاً الصين لا تريد «طالبان» لاحتمال فشل جميع تلك الصفقات والذي سيجعل «طالبان» مصدراً لتهديد الصين.
باكستان، التي تصاعدت حدة توتراتها مع حكومة أشرف غني في الآونة الأخيرة، واتهمت من قبله بأنها الداعم الأول لحركة طالبان، قد تكون أكثر دول العالم رغبة في سيطرة طالبان على أفغانستان، فالتفاهمات التي يمكن رصد نتائجها الحالية تشي بأن باكستان لا تمانع في وجود «طالبان» على رأس السلطة الأفغانية طالما لا تحدث حرب شعبية أفغانية شعواء تمس الأمن الباكستاني الاجتماعي، وطالما بقيت «طالبان» الباكستانية في مستوى الاختلاف والحياد مع «طالبان» الأفغانية، كذلك ترسيخ واستمرار التفاهمات السابقة بين «طالبان» وباكستان.
بالنسبة للدول العربية وتحديداً معظم الدول الخليجية، فإنها تعلم أن الدخول في مزاد المساومات والصفقات التي طبخت وتطبخ بسرعة حالياً حول أفغانستان و«طالبان» ستكون نتائجها وخيمة، ومع احتمال زوال خطر التوتر الإيراني مع دول الخليج قريباً، حسب البيانات الأخيرة، فيصبح الخطر الوحيد المتوقع هو أن تتحول أفغانستان إلى معقل ووكر للجماعات المتشددة الإرهابية التي تبدأ عادة هناك وتنعكس نتائجها هنا، فيصبح السيناريو الوحيد المقبول هو كلمة عربية خليجية موحدة أنه في حال تمكنت «طالبان» من السلطة في أفغانستان فإنها ستلتزم بنهج السلام والتسامح من جهة، وأيضاً بوأد الفكر المتطرف والتحول من عمل الميليشيات والحركات والجماعات إلى بناء نظم سياسية تستطيع الانخراط في المجتمع الدولي. 
المحافظة على مسافة واحدة، دون تدخل، هي الطريق القويم الذي تحتاجه الدول الخليجية حتى لا تتمكن الدول العظمى من تحوير وتأطير دور دول الخليج بلمح البرق والانسحاب خطوة للوراء وتحميلها أعباء ومسؤوليات، كما حدث أمس في اليمن، هي في غنى عنها.

لواء ركن طيار متقاعد