يكاد لا يمرّ شهر من دون أن يصدر خبر محزن عن وفاة آخر متحدث (أو متحدثة) بلغة من اللغات المحلية في أفريقيا أو آسيا أو أميركا الجنوبية. ويشارك علماء اللغة في العالم في هذا الحزن، تحسّراً على وفاة اللغة. فالانقراض اللغوي المتواصل والمتسارع بات يشكل مصدر قلق على مستقبل ثقافة التنوع في العالم، إذ تُعتبر اللغات من أهم مظاهر الثروة الإنسانية المشتركة.
وفيما يقف العالم مكتوف الأيدي أمام استمرار هذه الظاهرة السلبية، أُعلن عن وضع قاموس لأقدم لغة ولأقدم حضارة عرفتها الإنسانية، وهي اللغة البابلية. لغة شعوب ما بين النهرين (العراق اليوم). ماتت هذه اللغة قبل 2000 عام. إلا أنها بقيت محفورة على ألواح طينية. وبقيت هذه الألواح محفوظة فيما يشبه المكتبة.
كانت الأكادية لغة الإمبراطورية الأولى في التاريخ الإنساني في القرن الرابع والعشرين قبل ميلاد المسيح. وهي اللغة التي استخدمها حمورابي في عام 1700 قبل الميلاد لصياغة أول قانون إنساني. وبها أيضاً كُتبت ملحمة جلجامش أول رائعة من روائع الأدب الإنساني. ويُعتقد أن نبوخذ نصر استخدم هذه اللغة لاسترضاء زوجته وإعادتها إلى الحدائق المعلَّقة في بابل.
وإضافة إلى ذلك، كانت اللغة البابلية (الأكادية) لغة الأعمال والتجارة والزراعة، وكذلك لغة الطب والعلوم. وأهم ما فيها أنها كانت لغة مكتوبة. وقد عثر العلماء على مكتبة كاملة باللغة البابلية. ولكن بدلاً من رفوف الكتب، كما نعرفها اليوم، كانت المكتبة عبارة عن ألواح من الطين محفورة عليها كتابات في مواضيع مختلفة.
هذه المكتبة الطينية نُقلت بكاملها إلى جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة عام 1921 (قبل عقود من الاجتياح الأميركي للعراق). وقام بعملية النقل المستشرق جيمس هنري برستيد الذي أنشأ فيما بعد المعهد الشرقي في الجامعة. ومنذ ذلك الوقت تعاقبت مجموعات من العلماء والاختصاصيين على العمل على فك رموز هذه الألواح لفهم النصوص المكتوبة. وقد تمكنوا بعد سنوات من العمل المشترك من وضع قاموس لها يتألف من 28 ألف كلمة. ويغطي هذا القاموس تطور اللغة البابلية من عام 2500 قبل الميلاد إلى عام 100 بعد الميلاد. ويعرف هذا القاموس الآن باسم «قاموس شيكاغو الأشوري». وبالتأكيد فهو أغرب قاموس من نوعه في العالم. إلا أنه يستحيل فهم الحضارة البابلية من دونه. ثم إنه بالتأكيد أغلى قاموس في العالم، إذ يبلغ سعر النسخة الواحدة منه ألفي دولار. ويتألف هذا القاموس من عشرين مجلداً، صدرت تباعاً على مدى 55 عاماً!
كان الإنجيل المقدس أول كتاب وجد طريقه إلى الطباعة الميكانيكية، وذلك في القرن الخامس عشر عندما اخترع الألماني يوهانز غوتنبرغ المطبعة. وقد طبع منه في ذلك الوقت 180 نسخة فقط، لذا لم يحصل غوتنبرغ على تعويض مالي يمكّنه من العيش بكرامة. ذلك أنه مرت عقود عديدة قبل أن يدرك الناس أهمية الطباعة، وقبل أن يتعرّفوا على الكتاب، وقبل أن يُقبلوا عليه. وجاء هذا الإدراك متأخراً جداً بالنسبة للمخترع غوتنبرغ، فمات مهموماً ومفلساً. إلا أن اختراعه للمطبعة غيّر الدنيا فيما بعد. بحيث يمكننا الآن الاطلاع على أدبيات أقدم حضارة عرفتها الإنسانية، حضارة ما بين النهرين.. وأن نتعرف على أقدم لغة حضارية، هي اللغة البابلية. وذلك من خلال نقل نصوصها من الطين إلى الورق، ومن الورق إلى الإلكترونيات.
عندما اجتاح المغول الشرق، أحرقوا مدينة بغداد ومكتباتها. وألقوا بعلمائها في النهر.. وقبل ذلك أُحرقت مكتبة الإسكندرية التاريخية.. وبعدها أُحرقت مكتبة غرناطة والزهراء في الأندلس. وكانت كلها كتب مخطوطات. وفي ذلك الوقت كان عدد الكتب في مكتبة الزهراء وحدها أكثر من عدد الكتب في كل مكتبات أوروبا مجتمِعةً.
في العصور الوسطى، مرحلة الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، لم تنجُ إلا الكتب باهظة الثمن، ولثمنها فقط وليس لمضمونها. فأحرقت كتب لوثر الإنجيلي الإصلاحي، وأحرق لوثر كتب توماس الأكويني الكاثوليكي المحافظ. وفي جنيف أُحرق العالِم ميشال سيرفتش مكتشف الدورة الدموية مع كتبه.
لكن من حظ الإنسانية أن مكتبة بابل لم تكن ورقية، ولم تكن معروفة.. بل كانت فخارية، وكانت مجهولة. وربما نجت من أجل ذلك، لتقدم اليوم شهادة حية على أن هذه المنطقة من العالم كانت أمّ الحضارات.

كاتب لبناني