قصيدة الحب التي كتبها جبران خليل جبران للبنان تحت عنوان «لكم لبنانكم ولي لبناني» تتحدث عن حبه للناس، وفنهم، وحبهم للحياة، وروح الكرم التي يمتازون بها، وجمال البلد، في تباين قوي مع ساسة البلد المتصارعين الذين يتولون الزعامات فقط لأنهم ورثوها بسبب الانتماء العائلي. تلك القصيدة لطالما لازمتني ولم تبرحني قط. 
قبل خمسين عاماً، كنت قد سافرتُ وزوجتي وابني الذي كان لا يزال طفلاً صغيراً إلى لبنان في أول زيارة إلى البلد الذي شهد مسقط رأس والدي. فوجدتُ البلد تماماً مثلما كانت تصفه قصصه. فقد كانت بيروت مدينة رائعة تنبض بالحياة، وكانت الجبال جميلة وخلابة، والناس يتصفون بالكرم وحسن الضيافة، تماماً كما قيل لي. وكم كان شعوراً رائعاً أن تستيقظ كل صباح في بيروت وتتجول في شوارعها، فترى المحال التجارية تفتح أبوابها، وتستمع إلى أصوات حياة المدينة وصخبها، وتشعر بالطاقة اللافتة المنبعثة من المكان. 
أمضينا وقتاً مع عائلتي في قريتهم الصغيرة التي تقع بين الجبال الشاهقة. والتقينا بلبنانيين من كل مشارب الحياة، وزرنا بعض البدو، وأمضينا فترات طويلة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، حيث كنت أقوم ببعض البحوث من أجل رسالة الدكتوراه التي كنت أحضرها. 
لقد شعرتُ بنبض لبنان في قلبي ورأيت مناظرها في عين ذهني. كنت قد وقعتُ في حب المكان وأهله. 
ومع ذلك، شعرتُ وزوجتي بشعور خفي ذكّرنا بالتوترات العرقية التي ما زالت مشتعلة تحت الرماد في الولايات المتحدة، وأقصد بذلك تلك الطريقة غير الصريحة التي كان يتحدث بها بعض المسيحيين باستخفاف عن المسلمين، أو بعض المسلمين عن المسيحيين، أو مشاعر الارتياب أو الاستياء بين اللبنانيين والفلسطينيين. وذكّرني ازدراء قرية بمواطني بلدها المنتمين إلى قرية مجاورة بالصراع الأسطوري الطويل الذي كان يجمع بين عائلتي هاتفيلد وماكوي الأميركيتين.
ظاهرياً، كان لبنان بلداً حديثاً وعصرياً، ولكنه كان يعاني من الإعاقة بسبب نظام سياسي يغذّي الصراعات الطائفية والقبلية والإقليمية. وعندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان بعد بضع سنوات وانكشفت هذه التوترات وطفت على السطح بشكل واضح – مع ما انطوى عليه ذلك من نتائج مدمرة بالنسبة للشعب والبلد – لم يكن ذلك مفاجئاً. 
ولدى عودتي إلى لبنان خلال حربه الطويلة مع نفسه، وجدتُ بيروت مليئة بالمباني التي تحمل آثار الحرب وندوبها، ورجالاً (وأطفالاً) مسلحين في كل مكان، ونقاط تفتيش تفصل بين كل أجزاء المدينة. وعلى الجدران علقت صور شبان قضوا في الحرب وزعماء دينيين ملتحين بملامح متجهمة. كان الجانب الشرقي أحسن من بقية أجزاء المدينة نسبياً، ولكن مع ذلك كانت أمارات الحرب موجودة في كل مكان. أما في الجبال، فقد استمرت حياة القرية التي شكّلت ملاذاً للناس من الحرب التي كانت مستعرة في الأسفل. 
ثم حصل لبنان على فرصة ثانية في الحياة مع اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في سنة 1990. وتحت قيادة رئيس الوزراء رفيق الحريري الذي كان يتمتع برؤية ثاقبة وبعد نظر، أعيد إعمار بيروت، حياً حياً. ومرة أخرى، أصبحت «القلبَ النابض الذي أعاد الحياة إلى البلد»، كما كان يقول. 
غير أن لبنان ظل منقسماً على نفسه بحدة في وقت كانت فيه النخب الطائفية تشفط البلد والقوى الأجنبية - وخاصة سوريا وإسرائيل وإيران -تتنافس على تحقيق امتيازات في البلد أو احتلاله عبر وكلاء لها. 
وفي سنة 2005، اغتيل الحريري والعديد من أعضاء حكومته وأنصاره، ومنذ ذلك الحين والبلد في حالة تدهور مستمرة إلى أن وصل إلى الحال الذي بات عليه اليوم. 
تذكرتُ قصيدة حب جبران للبنان وأنا أتابع فشل البلد وأزماته المتتالية والتي ما كان ليتخيلها حتى هو: تفشي الفقر، نخب إقطاعية فاسدة ترقص على قبر البلد في محاولة عبثية للإبقاء على أدوارها وامتيازاتها، ومليشيا مسلحة بمثابة دولة داخل دولة تستخدم القوة من أجل الحفاظ على موقعها. 
في المستقبل، أريدُ أن أكتب حول الوضع السياسي في لبنان. ولكن في الوقت الراهن، أود أن أكتفي فقط بالتذكير بالأشياء الجميلة التي تستحق الحب بخصوص لبنان الذي كان (والذي آمل أنه سيكون مرة أخرى)، والخزي لأولئك المصممين على دفنه. 

رئيس المعهد العربي- الأميركي في واشنطن