كلما فتحت كتاباً أو ديواناً شعرياً، وتاه بي الكلام الكثير في البحث عن ذهب المعنى، تذكرت جدي، رحمه الله، حين كان يربت على الفرشة الصغيرة، ويناديني لأجلس عليها أمامه كل مساء، وهو جالس أمام الموقد الذي تتوقد فيه جمرات قليلة تكفي لإشعال الأرجيلة التي ترافقه في جلساته المستريحة بعد عمل طوال النهار في صياغة الذهب بإبداع متميز جعل مصاغاته نموذجاً يقلده أغلب الصاغة في ذلك الزمان. يمر بأنفاسه على أوتار الماء فيضطرب، ويبعث بإيقاعاته الرتيبة التي تصل سمعها من وراء جدار الفخار. بإصبعين من كفه اليسرى يضغط على القرص الدائري الذي يغطي عنق الأرجيلة وتخترقه قصبة مجوفة يحمل أعلاها قمعاً صغيراً من الفخار محشو بالتبغ الذي ينتقيه ويعدّه ويرطبه بعناية ويرصّه في القمع، ثم يضع الجمرات فوقه، يلتقطها بالملقط الخاص، وينفضها عن الرماد، ويرصّها بأنّاة وحذر على التبغ المبتل، ثم يسحب نفساً عميقاً فيبقبق الماء في الأرجيلة، وتتقد الجمرات كنجوم أشعلتها عتمة الليل. يده اليمنى تقبض على القصبة التي توصل ما بين شفتيه وثقب الأرجيلة المعبأة بالماء .
كنت أرقبه وهو يشد رأسه للوراء قليلاً، ويميل عليها مبتسماً بحنوّه الذي أعرف أنه يمنحه لي صافياً مثل قلبه المكتنز برحابة الحياة ومباهجها ومتعها، التي عبّ منها في صباه وشبابه وكهولته دون شبع وارتواء. جدي الذي أحببته كثيراً كان يؤثرني وحدي بحديث الذكريات وحكايات الأولين المليئة بالنوادر والحكمة، تنقلني كل مساء من عالم موغل في بساطته إلى فضاءات بعيدة في الزمان والمكان، شكلت نسيج ذاكرتي في السنين التي تعاقبت علي ولفت حياتي بوهجها. وحين لاحظ أنني أحب قراءة الكتب وتجريب الكتابة والشعر، قال لي بحكمة صائغ الذهب : ليس الكلام ذا قيمة يابنتي إذا لم ينصهر كالذهب في بوتقة المعنى .فاختاري كلماتك قبل الحروف، واختاري معانيك قبل الكلمات. وجميل أن تستمعي إلى كلامي، لكن أن تنصتي للمعنى تلك هي الجوهرة . ففي حياتنا معان كثيرة كأغوار المحيط، أما الكلام كرغوة الزبد. فكثرة الكلام تثير الملل، وقلته تثير الانتباه. فاختصري في الكلام ذلك أن المعاني تتعدد في الاختصار. فالكلام الكثير كالمناجم، كثيرها أحجار، وفي قليلها تكمن ذرات الذهب. وانتبهي إلى أن المعنى دوماً أخطر من الكلام. فلا ميزان إلا لذهب المعنى في الكلام، وحين تكتبين الشعر تذكري أن الشعر نبض القلب وسحر الخيال، تعزفه المعاني على قيثارة الأيام !