الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

سعيد المِطِيوْعي.. شاعر حتّا

سعيد المِطِيوْعي.. شاعر حتّا
14 أغسطس 2021 01:10

إبراهيم الملا 

في هذه القصيدة التي كتبها شاعر (حتّا) الكبير سعيد بن خلفان المِطِيوْعي ردّاً على قصيدة شهيرة قالها أحد قامات الشعر النبطي وهو الشاعر الفذّ (سالم الجمري)، تتوضّح أهمية المساجلات والشكاوى بين الشعراء الشعبيين في إذكاء شعلة المنافسة بينهم ضمن قالب ودّي تكون فيه مجاراة الأوزان والقوافي، هي المجاراة المعنيّة بتصدير الاستقلالية التعبيرية للشاعر أيضاً، فلكل طرفٍ منهما وجهة نظر خاصة تجاه موضوع القصيدة وتجاه مبتغاها ومطلبها، حتى وإن كان الردّ متراوحاً بين التعاطف من جهة، وبين الاعتراض من جهة أخرى، يردّ المطيوعي على قصيدة الجمري التي يقول في مطلع أبياتها: 
«تعبنا في هواكم وامتحنّا / تعزّينا عنكم وما سلينا
وغنّينا لكم في كل فنّا / وحنّينا وثم انّا عوينا
وشطّتكم صروف الدهر عنّا / ونسيتونا ونحن ما نسينا
ولا تدرون بمّا صايبنّا / ولا رفتوا وحنّيتوا علينا»
يتعاطف المطيوعي مع الجمري ويتضامن معه في معاناته من ابتلاءات العشق، خصوصاً أنها أدمت قلب الجمري وجعلته حائراً بين المداومة على الصبر أو الخنوع لليأس، يقول المطيوعي، إن القصائد المصاغة بأسلوب (الونّه) القابلة للتغنّي بها وإيصالها للمحبوب في إطار شجيّ ومفعم بالإيقاع لم يعد مفيداً في إعادة ترميم جسور الوصل، فلو كان لها تأثير سيكون هو من أوائل المتصدرين لهذه النوعية من القصائد، بل سيكون هو مؤدي القصيدة ومنشدها حتى يعالج بها أوجاع العاشق الولهان، المحاصر بالأرق والسهر وطول التفكير وتضارب الهواجس.. «ولو بتفيد ونّات وغنّا / بجرّ النوح عند الساهرينا»، مضيفاً أن الإشكال الأكبر بات متمثّلاً في (طول البعد) القادر على ممارسة ضغطه المتواصل لتقليل منسوب الهوى، واستنفاد ذخيرة الصبر، وجعل المحبّ مستسلماً لواقعه المرير، ومتهيئاً للفراق رغم فداحته وقسوته.. «ولكنّ اللّيالي توهنّا / وطول البعد زاد العوق فينا»، واستخدم المطيوعي أسلوباً يوازن فيه بين عتمة التشاؤم وإشراقة التفاؤل، مذكّراً صديقه (الجمري) بوجود فسحة من الأمل وطاقة من الانفراج، مهما تكالبت الظروف المعاكسة لمطلبه، ومهما تراكمت صنوف الهجر والتخلّي والنكران، مستعيداً صفات المحبوب وميزاته الجمالية كنوع من السلوى، وتخفيف المَصاب، وإحياء الرغبة المشبوبة قبل انطفائها وزوالها.. «صِفِي لخْدود وِدّه متعبنّا / غضيض الطرف حلو الحاجبينا»، كي يسترسل بعدها في هذا الوصف الماتع، والتصوير الباذخ قائلاً: 
«عليه أنواع حوريّات وجنّا / كساه الحسن ربّ العالمينا
وهذا اللي ودّه باخصنّا / حشيم ولا رمس مع لَدْلهينا
ونطلبكم ومنكم نستمنّا / عَسَنْ قلوبكم تعطف علينا
يمرّ الوقت وأنته قاطعنّا / مضت ليّام عنّا والسّنينا»
وكان المطرب الشعبي الكبير (علي بن روغة) قد أدى قصيدتي الجمري والمطيوعي تباعاً في العام 1969م لتثير لدى المستمعين حالة من الفضول والترقّب، نظراً لما احتوتهما القصيدتان من تراكيب مدهشة وصور عجيبة وخيالات شعرية آسرة، أكّدت قيمة الردود والمساجلات بين الشعراء في إثراء الذائقة الجمالية، والإنصات للصوت الإبداعي والأداء الفني، سواء في القصيدة النبطية أو الطرب الشعبي المنبثقين من فضاء فلكلوري غنيّ وحافل بأصداء التاريخ وعمق الموروث وتنوّع الجغرافيا. 

ثراء بصري
ولد الشاعر سعيد بن خلفان بن سعيد المطيوعي عام 1940م في بلدة (حتّا) الجبليّة التابعة لإمارة دبي، وتوفي - رحمه الله - في العام 2002م، وكان للبيئة التي نشأ فيها دور واضح في ارتباطه بالشعر باعتباره المنفذ التعبيري الموائم لترجمة طبيعة المكان المزدحم بالتباين البصري، وبالتمايز الطبيعي، فهو المكان المانح لسكّانه مناخاً مكتنزاً بالهدوء والتأمل وبالبصيرة القارئة للتفاصيل والمسدّدة نحو استثمار الجمال المشهدي المحيط به من كل صوب وجانب.
يذكر الباحث الدكتور راشد المزروعي، أن بلدة (حتّا) التي احتضنت الشاعر سعيد المطيوعي، كان يطلق عليها في الماضي مسمّى (الحيرين) أو (الحجرين) وكان يكثر بها النخيل والبيوت الطينية، وتتواجد بها قلعتان وقصر قديم لحاكم دبي، مضيفاً أن أهالي (حتّا) يذكرون أن منطقتهم قديمة جداً، وأن أغلب سكانها من قبيلة (البدوّات) ومفردها ( بدواوي) وهي قبيلة من قبائل الإمارات العربية المتحدة، ويمتد أفرادها فيما بين أراضي الإمارات والأراضي العمانية، ويقولون إن هذا الاسم جاء من كلمة (بدو) فكانوا هم بدواً استوطنوا هذه المنطقة في السابق، وعمّروها وزرعوها واستقرّوا فيها، وقد تغنّى أحد شعرائها الأوائل قائلاً: 
«حتّا حتّت من السما بمهورها / كل العرب والمسلمين تزورها»
أي أن منطقة (حتّا) هي قطعة هبطت من السماء، كناية عن تميّزها وعلّوها وتفرّدها جمالياً وجغرافياً، مقارنة بالمناطق المحيطة بها، ولذلك صارت مقصداً ومزاراً للآخرين كي يتمتّعوا بعطاياها وهباتها ومواردها الطبيعية الغنيّة.
وقال فيها شاعر آخر: 
«ما با لوادي (القور) مِنّه / يوم اخطفت وديان (حتّا)»
والراعبي يزقر بونّه / يوم الغِدّر قيّظ وشتّا»
أي أن وديان منطقة (القور) لا يمكن مقارنتها بوديان منطقة (حتّا) التي صارت أفضل من غيرها بسبب موقعها الجغرافي الهام في الطريق إلى الأراضي العمانية، حيث كان وادي القور سابقاً هو المنفذ المعروف لدخول سلطنة عمان عن طريق المسار المشهور باسم (الحويلات وأسود)، وبالتالي فإن العابر من خلال منطقة حتا لن يجابه الصعوبات والمشاق والتكاليف التي يواجهها في طريق القور القديم.
ويقول المزروعي الذي كانت له لقاءات متكررة مع الشاعر سعيد المطيوعي، إنّه ينتسب (للمطاوعة) وهم طائفة يغلب عليها التديّن والتداوي بالقرآن وعلاج الأهالي بالوسائل الشعبية التقليدية، وإن شاعرنا ولد في فترة صعبة بتاريخ الإمارات، حيث كانت الأربعينيات هي فترة جوع وقحط إثر تداعيات الحرب العالمية الثانية، وإن المطيوعي شهد سنوات الاستعمار الإنجليزي لإمارات الساحل، وقد انضم شاعرنا لقوات ساحل عمان في النصف الأخير من الخمسينيات الماضية وبداية الستينيات، وعاصر بدايات تشكيل القوة وترسيخ وجودها في مناطق الدولة، ولكنه لم يكمل مشوار الجندية، وفضّل عليها الحياة المدنية، وعند قيام دولة الاتحاد عام 1971م، عمل كاتباً بمستشفى منطقة (مصفوت)، وظل في تلك الوظيفة حتى وفاته عام 2002م.
ويشير المزروعي إلى أن المطيوعي تعلّم تعليماً ذاتياً منذ دخوله الجيش، ونظراً لتعلّقه بالشعر والقصائد النبطية منذ صغره وولعه بالقراءة والكتابة، فقد أكمل تعليمه في مراكز تعليم الكبار حتى أنهى المرحلة الإعدادية، وكان ذكياً ونبيهاً ما ساعده على سرعة التعلّم والفهم والإدراك الجيد للمعلومات، وقراءة الشعر والكتب، فبدأ يكتب قصائده بنفسه، مستمتعاً بولادة الحروف والكلمات والأبيات على الصفحات البيضاء، وهي ذات الصفحات المطرّزة بالقصائد الجميلة والتي كان يصحبها معه ويقرأها في برنامج مجلس شعراء القبائل بتلفزيون دبي في الثمانينيات، ليصبح لاحقاً أحد نجوم هذا المجلس، وأبرز الأصوات الشعرية فيه.

غزير الإنتاج
عن أساليبه وأغراضه الشعرية يقول الدكتور راشد المزروعي، إن سعيد المطيوعي كان غزير الإنتاج، وكان عضواً في مجلس شعراء القبائل بتلفزيون دبي، بالإضافة إلى ذلك فقد كان يملك صوتاً شجيّاً يستثمره في فنون (الشلّه) و(الطارج) متميزاً بهذا اللون الغنائي الفردي الجميل، وله عدد من أشرطة الكاسيت وهو يصدح قصائده بصوته العذب، وقد تطرّق إلى جميع ألحان الشعر النبطي، فقال (المناظيم) وهي من بحر الطويل، وله فيها الكثير من القصائد وخاصة قصائد المديح، كما قال في الردح والونّه، وفي التغاريد أيضاً، أما عن أغراضه الشعرية فيشير المزروعي إلى أنها تنوّعت بين الغزل والرثاء والوطنيات والنصح والحكم والمحاورات والشكاوى.

بداياته الإبداعية
تأثّر سعيد المطيوعي في بداياته الإبداعية بشعراء مميزين في زمنه أمثال: صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ومعضد بن ديين الكعبي، وسالم الدهماني، وسالم الجمري، وكان كثيراً ما يلتقي بالشاعر الدهماني الذي كان يقطن قريباً منه في بلدة (المنيعي) وينادمه القصائد البهيّة والأشعار العذبة، ما ساهم في تطوّر تجربة المطيوعي الشعرية وقدرته على مواكبة الحركة المتنامية للقصائد النبطية بعد انتشارها وذيوعها إعلامياً واجتماعياً.
وقد عايش المطيوعي شعراء كثر معروفين في الساحة المحلية، وتشاكى مع أغلبهم، ومنهم الشاعر محمد الشريف، وصالح الشريف، وراشد بن طارش، وعبدالله بن يعروف الكعبي، وعلي بن بخيت، وخميس السماحي، وعلي بن رحمة الشامسي، وغيرهم.

ريف الصبا
صدر للشاعر سعيد بن خلفان المطيوعي ديوان شعر عام 1999م بعنوان (ريف الصبا) من جمع وإعداد وتحقيق الدكتور راشد أحمد المزروعي، واشتمل الديوان على معظم قصائده الجميلة والمعروفة لدى محبّي الشعر النبطي، والتي نقلت نبض التحولات الاجتماعية منذ نهاية الخمسينيات وحتى بدايات الألفية الجديدة، مسترشداً بفطرته النقيّة في نظم قصائد متجاوبة مع حنينه الشخصي للماضي، ولطقوس هذا الماضي وأنماطه التراثية ومشاغله اليومية، متطرقاً للتفاصيل المعيشية بدقّة، وبحساسية بالغة، تهتمّ بالرصيد الثقافي والاجتماعي وبالحيثيات الغائبة عن الأجيال الجديدة، ومنها تلك القصيدة المتعلقة بإعداد القهوة العربية حسب تقاليدها العريقة والمتوارثة والتي يقول فيها:
«يا حامسين البن للبن تكييف 
 على الجمر إذا تبو تحمسونه
حرّك على المحماس نسفه تنسّيف 
بالتاد حمسونه ولا تحرقونه
وخمّر له الدلّه بكيفٍ وتصريف
 قايس وعاير بنّها في وزونه»
إلى أن يقول: 
«يحلى لها ذوقٍ وألذّ المراشيف
غالي الثمن عند الذي يعرفونه
وخلاف جدّمها على الضيف تشريف
وكبار سنّ العائلة ينشدونه
عِلْمْ وخَبَرْ فيها وسنّه وتسوليف
تراث ماضي وأجدادنا يذكرونه»

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©