كان المسيّرُ والمخيّرُ توأمين حين هبطا إلى الأرض. مشيا معاً في السهول الممتدة ولم ينتبها إلى اختلاف ظليهما على الرمال. وحين دخلا بين القرى واختلطا بين ناسها المطمئنين، لم يظن أحدٌ أنهما اثنان. كان الجميع يعتقد أنهما الرجل وذاته، أو الرجل الذي يحمل في داخله نقائضه ويقبل بها. لكنهما حين نظرا باتجاه الماء وجدا فتاة النهر تغسل شعرها الطويل وتطلقُ تنهيدة عشقٍ مخلوطةً بآهٍ مكتومة. قال المسيّرُ: هذه الفتاة مكتوبةٌ لي، وذهب يحرث في الحقول ليفوز بها. أما المخيّر، فقد جلس على صخرةٍ وأنشد فيها ثلاث قصائد عذبة، واستلّ ناياً من أحد الرعاة وراح يغني لها. لكن الفتاة كانت تنتظرُ عاشقاً لا انفصام فيه، ولا فرق بين ما يكنّه في القلب وما يُبديه على اللسان. وحين رأتهما يفترقان بعد أن كانا واحداً، أشاحت بوجهها باتجاه الضوء وغادرت متبوعةً بالفراشات وأسراب العصافير. ساعتئذ أدرك المخيّرُ والمسيّرُ أن اتحادهما في ذاتٍ واحدة هو ما يجعل منهما صوتاً عذباً. وأن الحيرة التي تنهش في كليهما، يمكن أن تذوب إذا أدركا أن الوجود مرهون بنظرة المرء إلى نفسه أولاً، إلى أعماقها الدفينة حيثُ الجوهر المحض للذات لا انفصام فيه ولا تضاد.
قال المخيّرُ للمسيّر: حين أضع رجلي على أوّل الطريق أكون حراً في اختيار هذا الدرب أو ذاك. وإن سقطتُ في الحفرة أو المكيدة، فأنا وحدي من يتحمل جريرة ما سيحدث. سأظل أنظر للكون باعتباره حديقة مفتوحة للسعي في اكتشاف أسرارها ومعانيها. وما دمتُ حراً فأنا وحدي فقط أقرر مصيري. لا الناس تُجبرني على الوقوف، ولا الجبلُ يصدّني إن أردت الوصول إلى النهايات البعيدة. أصنعُ قدري بيدي لأني مُنحتُ الحرية عندما مُنحتُ الوعي. أنا من يقرر أن ينحني عند هبوب العاصفة، وأنا من يختار أن يقفز في النار. الحريةُ هبةٌ من الرب وأنا مسيّرٌ بيدي.
قال المسيّرُ: أنا حرٌ لأني أقبل بما يحدث هنا الآن، وحرٌ لأني أقبل ما ينزلُ عليّ من غير سعي. كأن أكون نائماً في كوخ وتأتي الأفعى وتعض ساقي وخطوتي. وأنا حرٌ لأن الوجود كله يتناغم في نشيدٍ أبدي والبشر مجرد نغمات في مزماره. وسواءٌ سعيت إلى المرأة لتفوز بقلبها، أو هي أتتك وطرقت بابك في ليالي الخوف، فإن النتيجة ستكون واحدة في الحالتين. أنت مخيّرٌ ومسيّرٌ لأنك أنا، وأنا أنت.