لم يتمالك أي منّا نفسه، وهو يشاهد ويستمع لخطبة الوداع التي ألقاها ليونيل ميسي، وقد تأكد أن لا مناص من الرحيل عن الكوكب الذي أضاءه، ومنه استمدّ نوره الأسطورة «ليو».
لو كان البرشلونيون في ذلك اليوم، قد ذرفوا دموعاً ساخنة، وأطلقوا آهات الوجع والأنين، و«الكامب نو» سيخلو من ومضات السحر التي كان يطلقها «البرغوث» بسخاء كبير على مدى 17 عاماً، فإن غير البرشلونيين أحزنهم المشهد الباكي، لأن ما أُلقي في الناس، ليس قصيدة وداع، بل قصيدة رثاء، لأن مع رحيل ميسي ستغيب شمس الإبداع، وسيأفل قمر البهاء وسيحزن «الكامب نو»، لأنه سيفقد للأبد من أعاد كتابة التاريخ، خلاصة الأمر كانت اللحظة أشبه بجنازة ووري خلالها الثرى، زواج أسطوري بين ميسي وبرشلونة.
لم يكن معروفاً عن ليونيل ميسي يوما أنه متحدث بارع، ولا كان يوماً يتفوق في نظم الكلمات ونسج التشبيهات على كريستيانو رونالدو رفيقه في زمن الإعجاز، لذلك عمد «ليو» إلى اختيار جمل قصيرة فيها كثير من الشجن، وما بينها وصلات من الشهيق.
بالقطع لم يكن ميسي في بكائيته تلك متصنعاً ولا متكلفاً، لقد ترك مشاعره المحمولة على جرح الرحيل تتحدث عن نفسها، لتظهر كم كان «ليو» حزيناً على هذا الرحيل، وكم كان تعيساً لمفارقة الملعب الذي شهد معجزاته الكروية، وكم كان مهزوماً أمام القوة الاقتصادية التي فصلته عن كوكب السحر، عن «بارساه» التي كان لا يعشق بعد «التانجو» غيرها.
ومَن غير «ليو» يمكنه اليوم أن يلقي هذا النوع من الخطب الباكية والمحزنة دون أن يشتبه في كونه انتهازياً دون أن نفكر ولو للحظة أنه يستدر العطف؟ ودون أن نرشقه بالكثير من التقديحات، ومنها أنه عض اليد التي رفعته إلى عنان السماء؟
لم يكن سهلاً على ميسي أن يفترق عن برشلونة التي جاءها طفلاً، ومن ثديها رضع حليب الإبداع ليسقيها ويسقي كرة القدم شهد الإبداع، ببرشلونة قضى ميسي 21 سنة، 17، منها قضاها لاعباً للفريق الأول، وخلالها خاض ما مجموعه 778 مباراة، وسجل ما مجموعه 672 هدفاً، بمعدل لا يقل عن 0,86 هدف في كل مباراة، وحصل من الألقاب ما لا يضاهيه في قيمتها وفخامتها لاعب آخر، منها 6 كرات ذهبية.
لاعب مثل ميسي لا يمكن أن يتشدق بالانتماء، ولا يمكن أن يدعي الولاء لبرشلونة، لأن برشلونة هي جزء من كيانه وهويته، وأسطوريته، لذلك كان ميسي عميقاً وصادقاً في خطبة الوداع تلك، لو نزعنا من فاصل الفراق غيمة المال التي تمطر الكثير من الأحكام الظالمة، سيبقى أن الصفحة التي كتبها ميسي مع برشلونة لا يمكن أن تُطوى، لأن فيها كل معاني الخلود.