ازدادت حدة الصراعات في الآونة الأخيرة، وتبدلت معها مواقع المتنافسين، وتغيرت تحالفاتهم بصورة لم يسبق لها مثيل، لتنذر بعواقب ستكون لها تأثيرات كبيرة على اقتصادات مختلف البلدان، حيث ستحدد طبيعة هذه المنافسات موقع كل طرف في ميزان القوى العالمي. علماً بأن فهم كل دولة لطبيعة هذا الصراع يختلف عن الأخرى، فمعظم الدول ترى بأن الجبهة الحقيقية هي الجبهة الاقتصادية والتي ستحدد الفائز في نهاية المطاف، في حين أن هناك دولاً مؤدلجة ترى بأن القوة العسكرية هي الجبهة الأساسية التي ستحدد الفائز!

دول المجموعة الأولى تسعى بجد وبجهود كبيرة إلى تنمية اقتصاداتها والإسراع بمعدلات نموها، مما يؤدي إلى تقوية بنيتها الاقتصادية والتي تعزز بدورها من قوتها العسكرية المستندة إلى قاعدتها الاقتصادية القوية، وهي تحقق النجاح تلو الآخر وتعمق من الفجوة التنموية مع المجموعة الثانية التي تتباطأ معدلاتها التنموية وتتدهور مستويات شعوبها المعشية بسبب الإنفاق العسكري غير المجدي، على اعتبار أن صادراتها من السلاح شبه معدومة، مما يؤدي بدوره إلى مزيد من الضعف الاقتصادي ليصل إلى درجة خطيرة يتعذر معها توفير أبسط المتطلبات المعيشية، كمياه الشرب والخدمات الأساسية.

أما الدول الكبرى، كالولايات المتحدة والصين، فإنها تستوعب تماماً طبيعة الصراع الدائر على اعتبار أن الجبهة الاقتصادية هي مركز الصراع الرئيسي، وذلك دون إغفال الجوانب الأخرى، مما يفسر اشتعال المنافسة بين أكبر اقتصادين، وبالأخص بين شركات التقنيات الحديثة، كأبل وهواوي، حيث تُمارَس الضغوط الهائلة من كل طرف للسيطرة والحصول على العقود التي ستؤدي إلى زيادة ارتباط اقتصادات الدول الأخرى بالاقتصادين الأميركي أو الصيني.

وفي الوقت الذي تعتبر فيه الصين منافساً قوياً وشرساً، فإن الولايات المتحدة تملك تجربة غنية متراكمة عن صراعها السابق مع الاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة والذي تفوقت فيه بفضل قوتها الاقتصادية، ولم تكن الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية التي استهلكت موارد هائلة، بسبب سباق التسلح، مفيدةً لأي من الطرفين. وفي منطقة الشرق الأوسط لا يوجد مثل هذا الفهم الصحيح والعلمي لدى كافة القوى، فدول مجلس التعاون الخليجي تضخ باستمرار استثمارات هائلة لتنمية اقتصاداتها وتحديثها، مع عدم إغفالها للتحديات الأمنية الخطيرة، حيث تعمل بالتوازي لتقوية قدراتها العسكرية، لذلك فهي تتمتع بمستويات معيشية مرتفعة وبخدمات راقية وببنية أساسية تضاهي مثيلاتها في البلدان المتقدمة، وهي قادرة على الدفاع عن مصالحها، كما أنها تقدم مساعدات كبيرة للبلدان التي تمتلك نفس القناعات حول الطبيعة الاقتصادية للصراع، مثل مصر والسودان، حيث تحقق مصر معدلات نمو عالية ويسير السودان على نفس الطريق، وقد تلحقهما تونس قريباً.

وفي المقابل تسعى دول أخرى للهيمنة وإلى زيادة الإنفاق العسكري وإنتاج كافة أنواع الأسلحة ومحاولة صنع قنابل نووية لا أحد يتجرأ على استخدامها أبداً، مع إهمال كبير لحلبة المنافسة الرئيسية على الجبهة الاقتصادية، مما أدى عملياً ليس إلى إفقار شعوب تلك الدول وتدمير بناها الاقتصادية فحسب، وإنما إفقار شعوب أخرى وتدمير البنى الاقتصادية للدول التي تسير في هذا الفلك، مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن.. والتي يحاول بعضها الآن فك ارتباطه بمشروع العسكرة والتوجه نحو البناء الاقتصادي والتنمية وهي بحاجة لسنوات طويلة قبل أن تتمكن من الوقوف على أرجلها.

لذلك يمكن اعتبار طبيعة الصراع في منطقة الخليج والشرق الأوسط، كصراع مصغر لحرب باردة، حيث سيكون للقوة الاقتصادية القول الفصل في تحديد موقع كل بلد عند خط النهاية لهذا السيناريو، والذي بات معروفاً للجميع. فالبنية الاقتصادية القوية تمنح الدول الثقة في المستقبل وتعزز من تماسك جبهتها الداخلية، في حين تؤدي العسكرة المنفلتة إلى هشاشة المجتمع ونخره من الداخل ومن ثم سقوطه الحتمي، لتعارضها مع مصالح الناس وابتعادها عن تلبية الاحتياجات الأساسية لأفراد المجتمع.

*مستشار وخبير اقتصادي