يمثل خلو الحدود البرية بين جمهورية أيرلندا وأيرلندا الشمالية من أي نقاط تفتيش محوراً رئيسياً في اتفاق البريكسيت بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. والاتفاق الخاص بهذه الجزئية يعرف باسم «بروتوكول أيرلندا الشمالية» ويستهدف تحقيق هذا فحسب.

لكنه أدى إلى انتقادات قوية كما كان تطبيقه مثيراً للجدل. فالنقابيون يزعمون أنه يقوض هويتهم البريطانية، لأنه يعامل أيرلندا الشمالية بشكل مختلف عن باقي المملكة المتحدة. كما اشتكت الشركات أيضاً من عرقلته للتجارة. والنزاع عزز الشكوك وأذكى حرباً كلامية بين المملكة المتحدة والتكتل الأوروبي، مما يهدد بتقويض التجارة وبإلغاء اتفاق التعاون بينهما.

وهناك أيضاً قضايا مهمة أخرى لم تحسم بعد مثل: بعد بريكسيت، أصبحت التخوم التي تمتد 499 كيلومتراً، بدءاً من موقع قريب من «ديري» شمالاً إلى «دندوك» على الساحل الشرقي لأيرلندا، هي الحدود البرية الجديدة مع المملكة المتحدة.

ودون وضعية خاصة، يتعين القيام بعمليات الفحص على هذه الحدود، لأن المملكة المتحدة خرجت من الاتحاد الجمركي والسوق المشتركة. وهناك خوف من أن تعرقل عمليات الفحص حرية حركة الناس والبضائع بين جانبي أيرلندا التي انقسمت قبل عقد من الزمن، وأن تصبح نقاط الجمارك أهدافاً لأعمال عنف، بعد أن كان كلا الجانبين يأمل في منع عودة عصر العنف الطائفي الذي أودى بحياة أكثر من ثلاثة آلاف شخص بين نهاية ستينيات القرن الماضي والتوقيع على اتفاق السلام المعروف باسم «اتفاق الجمعة العظيمة» عام 1998. البروتوكول يبقي أيرلندا الشمالية فعلياً في المنطقة الجمركية للاتحاد الأوروبي وجانب كبير من السوق المشتركة.

وهذا يعني أن الشحنات القادمة من بريطانيا يتعين فحصها سلفاً لضمان استيفائها قواعد التكتل ومعاييره. وانتقلت الحدود في الأساس إلى البحر الأيرلندي. والاتفاق يسمح للمصدرين من أيرلندا الشمالية بالحصول على إمكانية وصول سهلة إلى السوق الأوروبية المشتركة وسوق بريطانيا الداخلية. في يوليو الماضي، طالبت المملكة المتحدة التكتل الأوروبي بإجراء تعديلات جوهرية على البروتوكول الذي وصفه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بأنه غير قابل للصمود.

وتريد المملكة، بين أشياء أخرى، أن يوافق التكتل على فترة توقف بشأن الإجراءات المتعلقة بأيرلندا الشمالية، بما في ذلك الاحتفاظ بكل فترات السماح لفحص التجارة. وأوضح التكتل والحكومة الأيرلندية أنهم سيتحلون بمرونة في إطار البروتوكول، لكنهم لن يعيدوا التفاوض على الاتفاق نفسه.

ويرى نقابيون في أيرلندا الشمالية أنه كان من الخطأ عدم معاملة المنطقة بالطريقة نفسها التي عوملت بها إنجلترا واسكتلندا وويلز. ويرى مصدرون من أيرلندا الشمالية أن النظام تسبب في المزيد من الجهد الروتيني والتأخير والكلفة عند دخول البضائع إلى المنطقة.

وبعض تجار التجزئة البريطانيين توقفوا عن البيع داخل أيرلندا الشمالية إلى حين حسم هذه القضايا. وأثناء مفاوضات البريكسيت، استكشفت حكومة المملكة مقترحات بديلة مثل أن تكون هناك حدود برية غير مرئية متقدمة تكنولوجياً بين جمهورية أيرلندا وأيرلندا الشمالية، مع إجراء الفحص الجمركي في منشآت اقتصادية بعيدة نوعاً ما عن التخوم الحدودية. لكن لم تثبت إمكانية تطبيق أي من هذه المقترحات بطريقة مقبولة من الجانبين.

التوترات ظهرت منذ بداية تطبيق البروتوكول، مع اكتساح صور الأرفف الفارغة من الأغذية مواقع التواصل الاجتماعي. وتصاعدت التوترات في يناير الماضي حين هددت المفوضية الأوروبية بتجاوز أجزاء من البروتوكول لمنع وصول لقاحات «كوفيد-19» المصنوعة في الاتحاد الأوروبي إلى بريطانيا عبر أيرلندا الشمالية، دون موافقة من التكتل. وأثار احتمال عودة السيطرة الأوروبية على الحدود الأيرلندية الغضب. وتراجعت المفوضية، لكن ما حدث أضاف زخماً للحملة الأوسع للنقابيين لتقويض البروتوكول والتخلص منه.

واتفقت المملكة والتكتل على إرجاء التعديلات لثلاثة أشهر، لكنها ما زالت بحاجة إلى خطة دائمة للتجارة في المنطقة. وفي مارس الماضي، أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستسقط الأعمال الروتينية على الأغذية المتجهة إلى أيرلندا الشمالية حتى أكتوبر، فيما يتجاوز الموعد النهائي المحدد بغرة أبريل الذي وافقت عليه مع الاتحاد الأوروبي. وتعتقد لندن أن المتاجر والتجار غير مستعدين للقواعد الجديدة وطلبت من قبل مد الموعد النهائي إلى 2023، لكن التكتل الأوروبي لم يوافق على هذا المقترح، وأعلن أنه سيتخذ إجراءً قانونياً ضد المملكة لانتهاك اتفاق البريكسيت. وتراجع التكتل منذئذ عن الطريق القانونية، بينما يحاول الجانبان حسم بعض قضايا البروتوكول. وسيؤخذ رأي أيرلندا الشمالية في البروتوكول عام 2024. صحيح أن التفاصيل لم تحسم بعد، لكن مجلس تقاسم السلطة في المنطقة سيوافق على الاتفاق.

وإذا دعمت أغلبية بسيطة البروتوكول سيجري التصويت مرة أخرى بعد أربع سنوات. وإذا حصل الإجراء على الدعم من النقابيين والقوميين، فلن يجري التصويت مرة أخرى لمدة ثمانية أعوام. وإذا ألغى المجلس البروتوكول، ستعود مسألة الحدود إلى قائمة الأولويات، بغية إجراء مفاوضات شاملة لوضع اتفاقات جديدة تخفف من بعض عمليات الفحص. وتشير الحكومة الأيرلندية إلى أن التوصل إلى اتفاق بشأن المعايير الصحية سيغني عما يصل إلى 80% من مواقع التفتيش.

في أي وقت قريب، لا يرجح أن ترغب أغلبية في أيرلندا الشمالية في البقاء جزءاً من المملكة. لكن احتمالية مناقشة هذا مرة أخرى يعد شهادة للقوى التي أطلقها البريكسيت. وبموجب اتفاق الجمعة العظيمة، لن يحدث ما يطلق عليه «الوحدة الأيرلندية» إلا إذا رأت حكومة المملكة احتمال إقرار مثل هذا الاستفتاء. وهناك نحو 44% من ناخبي أيرلندا الشمالية يعارضون الوحدة و35% يؤيدونها، وفقاً لمسح أجرته صحيفة «أيريش إندبندنت» في مايو الماضي. وهذا ربما يجعل الطائفة التي لم تحسم أمرها قادرة على ترجيح إحدى الكفتين.

*كاتب متخصص في الشؤون الأوروبية

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»