عندما يدلف إلى المقهى ينظر إلى الزاوية التي تعوّد الذهاب إليها واختيار الطاولة الخاصة به والمحددة في ركن لا يقبل أن يبدله أبداً مهما كان ظرف المكان، تحتله تلك الزاوية وكأنها عش طائر يرفض أن يجد له بديلاً، لا يستريح حتى يحط على المكان عينه والمقعد عينه وأيضاً الزاوية نفسها.
لا يشعر بلذة القهوة إن أجبر يوماً على تبديل المكان والمقعد والزاوية، يخرج سريعاً ويظل يدور في محيط المقهى وعينه لا تفارق زاويته وانتظاره قد يطول، وضجره كبير، وأمله يظل معلقاً بأن يرحل ذلك المتطفل على مكانه وطاولته المعتاد الجلوس عليها، كم يمقت المستولي على أجمل الزوايا، والذي قد يضيع الكثير من وقته، ولكنه لا يعبأ بالوقت ولا يخيب أمله بأن يرحل الغريب الذي حط على أجمل زاوية بالنسبة له، عندما تشاهده يحوم حول المقهى ذاته بالزمن ذاته، فإنك تعلم أنه في حالة انتظار وضجر مع ترقب ألا يسرقه الوقت ويعود من دون أن ينال فرصة ولحظة يستمتع بوقته ويفرج رتابة يومه. هل لهذا الحد تحتل الأماكن والزوايا والعادة وجدان البعض، الجواب نعم وأكثر، إلى درجة أن يتم حجز الزاوية لبعض الزبائن القدامى في تلك المقاهي وأماكن الراحة في بعض ردهات الفنادق والأماكن السياحية. والعاملون في تلك الأماكن بعد زمن من العلاقات الطويلة لا يخيبون أمل وظن الزبائن المميزين جداً وأصحاب الحساسيات من تغيير الأمكنة. البعض له أسباب نفسية وأحداث في الماضي المبكر من حياته، خاصة ذلك الذي لا يمكنه أن يجلس على طاولة إذا لم يكن الجدار يسند ظهره، ويرتعب إن كان خلفه فراغ أو ممرات تسمح بأن يمر أحدهم خلفه، بينما أصحاب الرومانسيات ومحبو أن يكون نظرهم إلى البعيد أو إلى الحدائق والخضرة والماء، فإن الأمر مختلف تماماً، بينما البعض يعشق الفضاء والمساحات المفتوحة، حيث تحلق أنظارهم وخيالاتهم إلى البعيد، هؤلاء يدلفون إلى المقاهي لراحة النفس والتمتع بالوقت وسخونة القهوة وحب الحياة الجميلة.أما البعض الذي تطحنه الحياة، ويهده التعب، ويقرصه الجوع، وتجبره الحياة، أن يكون المقهى والمطعم بديلاً لغياب الأهل والأحبة وتعصره الغرابة ويهده البعاد عن الدار والعائلة، فإن كل الأمور الجميلة والحالمة لا تعنيه ولا يدير بالاً أو فكراً للزاوية الجميلة أو الطاولة التي تحتل أفضل المواقع. المقهى بالنسبة له لحظات يطفئ فيها عطشه ويسد جوعه، لا يهم أين تقع الطاولة ولا يهمه العابر والراحل والقادم حتى الأصوات لا تعنيه إن كانت عالية أو غير ذلك. للمقاهي والزوايا ناس مختلفة الأذواق والمشارب أنواع من البشر. كان لي صديق لا يمكن أن يدخل المقهى المعتاد الجلوس عليه إذا كانت زاويته وطاولته مشغولة، ولا يمكن أن يقرأ أو يكتب إلا على تلك الطاولة وفي تلك الزاوية، حتى الوقت دقيق ومحدد بالفترة والأيام التي نلتقي فيها، رحل عني الجميل الأديب والشاعر العزيز ناصر جبران، فهجرت المقهى والأمكنة التي كنّا نلتقي فيها، جميل وعزيز رحل ولا يمكن أن يعوض أبداً.