لا زال الوقت مبكراً لتقدير كافة الخسائر الباهظة التي لحقت بالاقتصاد العالمي من جراء تفشي فيروس كورونا، والتي تقدرها بعض المصادر بأكثر من 12 تريليون دولار وفق مركز جنيف للدراسات السياسية والاستراتيجية، وهي تفوق كثيراً تلك الخسائر التي تكبدها العالم أثناء الكساد العظيم بداية ثلاثينيات القرن الماضي. فلأول مرة تصاب اقتصادات كافة الدول بشلل كامل، باستثناء بعض القطاعات الضرورية لاستمرار الحياة، كالأغذية والأدوية وإمدادات الطاقة.
الآن وبعد مرور قرابة عامين على ظهور الجائحة تنفس العالم الصعداء، وبالأخص بعد انتشار واستعمال اللقاحات على نطاق واسع، مما حد من استمرار تفشي كوفيد-19 وفتح المجال أمام استئناف معظم الأنشطة الاقتصادية ولو بحدها الأدنى بسبب تداعيات تحتاج وقتاً طويلاً لتجاوزها، خصوصا أن تلك التداعيات لم تؤد إلى تراجع الإنتاج والأنشطة فحسب، وإنما أدت إلى إحداث تغيرات عميقة في بنية الاقتصادات العالمية وفي قيم العمل وفي طبيعة علاقات الإنتاج، وبالأخص بعد الاضطرار إلى التوسع في استخدام التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي في تيسير أمور الحياة بكافة أشكالها، بما في ذلك قطاعات مهمة ذات طابع اجتماعي، كالتعليم والتواصل الاجتماعي الإنساني.
المهم أن عملية التعافي بدأت وستستمر دون توقف، إلا أنها ستواجه عقبات عدة، مما سيعيق سرعة التعافي، خصوصاً أن اللقاحات تقلل حدة الإصابات، إلا أنها لا تقدم حماية كاملة وأكيدة بسبب تحورات الفيروس العديدة وسرعة انتشارها، حيث سنحاول هنا توضيح بعض عواقب هذه التداعيات ومدى آفاق تجاوزها، وصولاً لمرحلة التعافي الشاملة.

نقص إمدادات المعادن الأساسية
أدى تفشي الجائحة إلى توقف شبه كامل لقطاعات إنتاجية حيوية لسير العملية الإنتاجية، كإنتاج المعادن الضرورية لكافة الصناعات، حيث يعاني القطاع الصناعي العالمي حالياً نقصاً شديداً للمعادن بسبب صعوبة عودة الطاقات الإنتاجية لقطاع التعدين إلى مستويات ما قبل كورونا، مما أدى إلى تراجع الإنتاج في قطاعات مهمة، كصناعة السيارات ومنتجات البناء والتشييد والآلات والمعدات اللازمة لتشغيل مرافق مهمة، كالزراعة والمواصلات، وهو ما سوف يستمر لبعض الوقت ويتسبب في نقص المعروض وارتفاع الأسعار ونسب التضخم.
وفي هذا الصدد يعاني قطاع أشباه الموصّلات نقصاً كبيراً، وهو ما يعيق الإنتاج في مجالات مهمة أخرى ويؤثر فيها، كالأجهزة الإلكترونية والذكية التي أضحت تدخل في معظم المنتجات الحديثة، وبالأخص بعدما ازداد الاعتماد على الحواسب الآلية والأجهزة الذكية في صناعة السيارات والآليات وأجهزة الاتصالات ووسائل النقل، كالطائرات والسفن والقطارات، حيث أدى هذا النقص في أشباه الموصّلات إلى تقييد تصديرها في الولايات المتحدة الأميركية والتي تعتبر المصدر الرئيسي لها، وهو ما أدى على سبيل المثال إلى تراجع كبير في إنتاج شركة هواوي الصينية، بل إن هذا النقص ساهم في تراجع إنتاج شركات أوروبية عملاقة، كشركة «بي إم دبليو» لصناعة السيارات والمركبات.
ينطبق ذلك على قطاعات اقتصادية عديدة أخرى تعاني من نقص الإمدادات، والتي تعاني صعوبات تتعلق بإعادة عجلة الإنتاج إلى سابق عهدها، حيث ستستمر هذه العقبة لتخلق فجوة بين العرض والطلب المتزايد، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار الكثير من السلع والخدمات في الأسواق العالمية كالتي نشهدها الآن والتي ستستمر في الفترة القادمة، فالصناعات متعطشة للمعادن والمواد الخام وأشباه الموصّلات وسلع أخرى عديدة، لا تستطيع مرافق إنتاجها إعادة الطاقات الإنتاجية كاملة وبصورة فورية بسبب الضرر الناجم عن توقف الإنتاج في فترة الجائحة.

سلوكيات العاملين
يرتبط ذلك أيضاً بالتغير السلوكي للعاملين والذين التزموا منازلهم لفترة طويلة، أو أنهم أداروا أعمالهم عن بُعد، فثلث هؤلاء العاملين في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يفضل استمرار العمل عن بُعد ولا يحبذ العودة الروتينية للعمل بالمكاتب، حتى ولو أدى ذلك إلى فصله من عمله، وهو ما ينطبق أيضاً على قطاع التعليم، كما أن عدداً كبيراً منهم يطالب بزيادة كبيرة في الأجور، خصوصاً أنه في البلدان المتقدمة تمكنت فئات واسعة من ادخار مبالغ كبيرة من المال بفضل التوزيعات والإعانات المالية التي وزعتها الحكومات لدعم الأفراد وقطاع الأعمال، كما هو الحال في الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي، كما حصلت فئات عديدة على أجورها كاملة، في الوقت الذي انخفضت فيه مصاريفها بسبب الحجر الصحي، وذلك باستثناء من فقدوا وظائفهم، حيث لم يتمكن الكثير منهم من شغل وظائف الآخرين بسبب اختلاف طبيعة أعمالهم ومؤهلاتهم.
ونجم عن ذلك ارتفاع أعداد البطالة، وبالأخص في البلدان النامية الفقيرة، والتي تزداد معاناتها بسبب عدم قدرتها على تجاوز الأزمة لعدم توفر اللقاحات، حيث تفتقر هذه الدول إلى الأموال اللازمة لشرائها، وتعتمد على المساعدات الدولية المتواضعة والبطيئة، مما يعمق أزماتها الاقتصادية والصحية.


التعافي التدريجي
ما هي آفاق تعافي الاقتصاد الدولي في ظل هذه التناقضات المؤثرة؟ رغم كل ذلك، تبدو الأمور مبشرة بعودة الأنشطة تدريجياً إلى وضعها السابق مع تقلبات تتعلق بالتحورات الجديدة لكوفيد-19. فالقطاع الصناعي سيعود بأسرع من قطاع الخدمات، وذلك بفعل اختلاف طبيعة كل منهما، فالطلب المتنامي والكبير على المنتجات الصناعية سيدفع الشركات إلى سرعة اتخاذ القرارات لتلبية الطلب وتحقيق أرباح كبيرة في ظل ارتفاع الأسعار، وهو ما سيساهم في انتعاش الأوضاع الاقتصادية وسرعة تعافي الاقتصاد العالمي، فعلى سبيل المثال تضاعفت أرباح شركة «سابك» للبتروكيماويات، وهي إحدى أكبر هذه الشركات في العالم خمسة أضعاف في النصف الأول من العام الحالي 2021 مقارنة بالنصف الأول من العام الماضي، وذلك بفضل ارتفاع الطلب وارتفاع الأسعار في آن واحد، وهو ما ينطبق على الكثير من شركات الإنتاج في المنطقة والعالم ولكن بنسب أرباح متفاوتة.


عودة قطاع السياحة
أما قطاع الخدمات، بما فيها قطاع السياحة والنقل الجوي، فقد بدأت بوادر التعافي ولو بصورة بطيئة بسبب عدم استقرار تفشي الجائحة بين مختلف دول العالم، وهو ما يؤدي إلى إعادة الإغلاقات وقيود السفر المتأرجحة وتردد المسافرين والسياح، ومنع أعداد كبيرة منهم لعدم قبولهم تلقي التطعيمات اللازمة للسفر الدولي، مع ذلك، فإن الجانب الإيجابي هنا يكمن في أن هذا القطاع الحيوي دب فيه النشاط من جديد وبصورة تدريجية، ولكنها مستمرة ومتنامية.
هذا التحليل الموجز للتداعيات ولإمكانات التعافي يتيح الخروج باستنتاج مهم، وهو أن مرحلة التعافي قد بدأت وان أسوأ الأوقات قد مرت، كما يمكن الإشارة إلى أن الاقتصاد العالمي سيحقق في السنوات القادمة معدلات نمو جيدة، مقارنة بتراجع كبير تجاوز 20% في بعض الاقتصادات المتقدمة، فصندوق النقد الدولي يتوقع نمواً قوياً للاقتصاد العالمي هذا العام ليرفع توقعاته من 5.5% إلى 6%، مقابل انكماش بنسبة 4.9% العام الماضي، كما توقع أن تعافي اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي هذا العام بوتيرة أسرع مما كانت تشير إليه التقديرات السابقة، حيث يتوقع نمو الاقتصاد الإماراتي بنسبة 3.1% في عام 2021 والاقتصاد السعودي 2.9% والبحريني 3.3% والكويتي 2.4% والعماني 1.8% والقطري بنسبة 2.4%، مقابل متوسط انكماش بنسبة 4.5% لدول المجلس في عام 2020، علماً بأن معدلات النمو الخليجية قد تتجاوز النسب السابقة بفضل المؤشرات الإيجابية الخاصة بإمكانية ارتفاع أسعار النفط في الربع الأخير من العام الحالي، خصوصاً أن الصندوق سبق وأن غيّر معدلات النمو أكثر من مرة بعد الارتفاع الكبير في أسعار النفط منتصف العام الجاري.


دوران عجلة التعافي
مجمل هذه البيانات تشير إلى موضوعية الاستنتاج الخاص بمرحلة التعافي، والتي بدأت عجلتها في الدوران وصولاً لمستويات ما قبل الجائحة، مع أهمية التأكيد على أن ذلك لن يكون في خط مستقيم تماماً، بل ستكون هناك تعرجات ومطبات وتقلبات، إلا أنها لن تعيق مرحلة التعافي التي ستستمر بصورة تدريجية، ولكنها مؤكدة، مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات الهيكلية التي طالت الاقتصاد العالمي، وبالأخص انتشار التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي على نطاق أكبر مما كان عليه قبل الجائحة، وهو ما سيتيح زيادة الإنتاج وتحسن جودته وزيادة فعالية استخدام الطاقات البشرية وسرعة إنجاز المتطلبات، والتي ستساهم جميعها في الدفع باتجاه سرعة التعافي وتجاوز كافة المعوقات التي أشرنا إلى بعضها وعودة الأنشطة الاقتصادية الحيوية لمستويات ما قبل كوفيد-19 مع نهاية العام القادم 2022.
مستشار وخبير اقتصادي