في مدينة مونتفيل في منطقة نورماندي الفرنسية، أقام «أرنو كريتو» في فناء منزله الخلفي فرناً يعمل بالطاقة الشمسية ليصبح أول «خباز شمسي» في فرنسا وأوروبا. وينتقل «كريتو» بين مطبخه الذي أقامه في فناء منزله ويعجن فيه يدوياً الطحين الغني بالحبوب وبين 57 مرآة مقعرة تمثل جداراً. وكل عشر دقائق، نهاراً، يعدل كريتو يدوياً زاوية جدار المرايا الذي تبلغ مساحته خمسة أمتار مربعة كي يتوافر ما يكفي من الشمس لإنضاج الخبز في الفرن.

وإذا كان مناخ «نورماندي» المتقلب متعاوناً، يستطيع «كريتو» إنتاج 40 رغيفاً من الخبز الذي استخدم فيه العجين المختمر كخميرة له، والذي أنضجه بطاقة الشمس. ويعمل «كريتو» على نقل معرفته إلى الآخرين أملاً في أن يحققوا تأثيراً مشابهاً. وتعرف «كريتو» على شركة «سولار فاير» التي صنعت فرنه الشمسي وأيضاً على جماعة «جو سول Go Sol» غير الهادفة للربح المتخصصة في تقنيات الطاقة الشمسية أثناء رحلة إلى الهند عام 2014. وعمل في مشروعات تنموية في أنحاء أفريقيا قائماً بتعليم طريقة إعداد الخبز المستدام بيئياً. والآن، يقدم كل شهر تدريباً للذين يتطلعون إلى تعلم المزيد عن تقنياته.

ويقول «كريتو» إن هناك طائفة مخلصة من الزبائن يحرصون على الحصول على الخبز الذي يصنعه من أماكن التسوق في منطقته المحلية وتركوا بحماس استهلاك الخبز الأبيض المعتاد. و«كريتو» ضمن طائفة ناشئة من «الخبازين الجدد» في أنحاء فرنسا يعملون على الجمع بين المنتجات المحلية والوسائل القديمة الصديقة للبيئة في صناعة الخبز. وهذه المجموعة الصغيرة، لكن المخلصة، تقوم بأكثر من العثور على وسائل ابتكارية لإنتاج الخبز. إنها تخلق حماساً متجدداً لخبز «الباجيت الفرنسي»، الذي يُعد رمزاً للبلاد، وشهد تلاشياً في الشعبية في العقود القليلة الماضية. فالخبز الفرنسي مكون أساسي من غذاء البلاد منذ العصور الوسطى.

ورغم أن أصله ما زال موضع تكهنات، لكن معظم المؤرخين يرون أنه أصبح جزءاً محورياً من المطبخ الفرنسي منذ القرن التاسع عشر تقريباً، حين ظهر الشكل المستطيل ليحل محل الأرغفة المستديرة التقليدية. ومع مرور الوقت أصبح هذا الخبز أكبر دليل على فن الخبز الفرنسي. وفي مارس الماضي رشح وزير الثقافة الفرنسي خبز «الباجيت» ليكون من معالم تراث الإنسانية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) التي ستصدر رأيها في وقت متأخر من عام 2022.

لكن في العقود القليلة الماضية، تقلص دور الخبز مع تخلي المجتمع الفرنسي عن الأنظمة الغذائية الغنية بالسعرات الحرارية. وأصبح الفرنسي يستهلك في المتوسط نحو 120 جراماً من الخبز يومياً، أي ثلث ما كان يستهلكه عام 1950، وفقاً لبيانات موقع Planetoscope. وتستهلك فرنسا سنوياً نحو 10 ملايين رغيف «باجيت»، لكن نحو 20 ألف مخبز أُغلق منذ سبعينيات القرن الماضي. وأصبح من الأكثر ترجيحاً عن العقود الماضية أن يشتري الناس الخبز من المتاجر، التي تنتجها بصفة عامة خطوط إنتاجية، وليس باستخدام الوسائل الحرفية العتيقة. ويرى «ستيفن كابلان»، الأستاذ الفخري بجامعة «كورنيل» في ولاية نيويورك الذي ألف 15 كتاباً عن الخبز ويعيش في جنوب فرنسا، أن ما يأكله الفرنسيون باعتباره خبزاً ليس إلا منتجاً رديء الجودة حقاً، وأن «الباجيت» الفرنسي الحالي بلا رائحة ولا طعم ولم يختمر بما يكفي، وبه الكثير من الإضافات. وهذا أفسح المجال لتقنيات وعناصر جديدة للذين يأملون في إحياء الطعام الفرنسي الأساسي. ومن بين هؤلاء الخباز الفرنسي «بينوا كاستيل»، الذي ابتكر ما يطلق عليه «خبز أمس واليوم».

وهذا النوع جاء تتويجاً لعام من العمل الدقيق للعثور على المزيج الصحيح من العناصر والطريقة الملائمة لإنتاج رغيف خبز معتمد على استخدام عجين مختمر وأجزاء متبقية من خبز سبق إنضاجه. وفي البداية، كان «كاستيل» يستهدف مكافحة هدر الطعام. وتهدر فرنسا 10 ملايين طن من الغذاء سنوياً مسؤولة عن 3% من انبعاثاتها من الغازات. وأقرت الحكومة طائفة من مشروعات القوانين في العقد الماضي لمعالجة المشكلة. والرغيف الذي ينتجه «كاستيل» دائري الشكل، ويستمر صالحاً للاستهلاك خمسة أيام في مقابل يوم واحد لخبز الباجيت التقليدي. وتسير المبادرات المحلية في صناعة الخبز في الاتجاه نفسه الذي تسكله توجهات قطاع الزراعة الفرنسي. وتشير وكالة «ايجانس بيو» القومية للزراعة العضوية إلى اشتغال أكثر من 10% من المزارعين الفرنسيين بالمنتجات العضوية في عام 2018 وتسجيل نحو 7000 مزارع كي يتحولوا إلى الزراعة العضوية. وجاء في بيانات الوكالة أن هناك 13% تقريباً من الفرنسيين يأكلون المنتجات العضوية يومياً.

ويأمل توماس تيفري-شامبلان الذي أسس «مدرسة الخَبْز الدولية» في جنوب فرنسا عام 2005 أن يغير التعليم الحديث. فالمدرسة تركز تماماً على استخدام المكونات العضوية وهي المدرسة الوحيدة في أوروبا التي تقدم دبلوم مدرسة عليا متخصصة في إعداد الخبز بالمواد العضوية والعجين المختمر. ومنذ تدشينها، أقام 80% من خريجيها مخابزهم الخاصة ولم يُغلق أي منها حتى الآن. ويؤكد تيفري-شامبلان أن استخدام المواد العضوية أو العجين المختمر ليس فقط توجهاً عصرياً، بل يعزز الوعي أيضاً بشأن الفوائد للصحة والمحافظة على البيئة.

*مراسلة كريستيان ساينس مونتيور في باريس.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»