بين جنيف وباريس طريق غير بعيد، إما بسيارة تتهادى بك، وإما بقطار جميل وممتع في سيره، في مرات قليلة أخذت طائرة بينهما، لأن الطائرات العاملة أشبه بالتاكسي الجوي أو تلك الطائرات الصغيرة التي تستعمل للتدريب، واعتماد ساعات جوية لطيارين لن يستمروا طويلاً وراء كابينة القيادة، لا تهم دابة الركوب ما دام أنها ستوصلك إلى مدينتك الساحرة باريس التي لا يمكن أن تعود إليها، ولا تتفقد تفاصيلها وتفاصيلك، ثمة سعادة ترجف القلب وحده، بائع الورد مثلاً، ذاك الذي يحتل ناصية الشارع في الدائرة الخامسة عشرة، كيف هو، وكيف حاله؟ هل ما زال يهرم لوحده في دكانه؟ هل يستعين بآسيوي ميزته العجلة وعدم الاكتراث، ويتذكر كيف كانت أصابعه قبل أن ترتجف كأصابع عازف بيانو، وهو يشذب الورود، ليعطيها نضارة من عينيه، كيف هو ذلك الـ«كلوشار»، المتسكع؟ أما زال مخلصاً لقنينته الرخيصة، بذاك الجوع الذي يفتت أسنانه، رؤيته وهو يستند بظهره على الجدار البارد، تجعلك تطمئن أن صحته ما فتئت تقاوم، ويزيل عن كاهلك ذلك القلق الإنساني الذي ربما لا يدري هو عنه، أن هناك شخصاً يعرفه، عنده ذلك الشعور بالود والحب الذي هرب مع تلك المرأة التي كانت تكره فيه رائحة الذئب العطش.
تمني النفس أن الغداء سيكون في ذلك المطعم الصيفي المنزوي في ساحة «مونمارتر» وحين تدلف للمكان تجده وحده مع تلك الشجرة القديمة التي تتحايل على البيات الشتوي، والموت المخاتل، والموسيقيّ عازف الـ«تشيللو» الذي يحتضن آلته الكبيرة بين دفتي صدره، وكأنه يسحب جثة صديق مخلص، لم يعد هناك، تمرح مع نهارك مع أشقياء العالم في تلك الساحة الحجرية، وهم يرسمون، ويلقطون رزقهم كطير شبه مهاجر، يرسمون نفوسهم الضائعة، ويرسمون وجوه العالم المرتحلة والمتبدلة من حولهم، وحين يأتي الشتاء الباريسي تظهر عللهم التي يخبئونها تحت معاطفهم الصوفية العتيقة.
تجول ولا تريد أن تشبع من المدينة، تقف عند اليهودي الشرقي الذي يبيع الفلافل فقط، وكأنه حامل سرها لوحده، يبتسم للجميع، ويخاطبهم بلغاتهم، ويضفي على مكانه وبضاعته العادية شيئاً من قيمة التاريخ، وغبار الجغرافيا، ملعون هو، فغالباً ما يسجل انتصارات شبه وهمية ضد زبائنه غير المخلصين، وحدهم الملخصون له، ولجوعهم البخيل، كان يتبادل معهم حميميته الشرقية التي يصعب عليه نسيانها هناك، من حيث ارتحل، أين «عايدة» مسؤولة الصندوق في متجر الأغذية الكبير؟ ربما فاز بها مهاجر لبناني إلى البرازيل، قد يكون ذلك الجسد الناري اليوم بعد ولادتين شبه متعثرتين كجلد امرأة غابت في الوظيفة غير المجدية، ومع رجل غير مكترث، الشحاذة الغجرية الحامل دوماً في أشهرها الأخيرة، والتي تشبه لغماً ديموغرافياً يهدد فرنسا، كثيرون تفتقدهم وتتفقدهم في ساعات الوصول الأولى، مثل ذاك الأفريقي الذي يشبه شجرة أبنوس يابسة، وبحثه في العيون الغريبة مرسلاً لها مسكنته.
باريس يا صوت أكورديون، وصوراً فوتوغرافية بالأبيض والأسود، وحشرجة «أديث بياف» التبغي، ورائحة أزياء جديدة، ونساء متأنقات بمهل، غير مكترثات إلا بجمالهن، ومقاه تفحّ بالثرثرة، وأماكن عديدة لها عطرها العتيق في الأنف.