وحدي هنا في عزلة فرضتها ظروف كورونا وسلالته اللاحقة.. الدرب خارج البيت صار قفراً مغلقاً، وأنا أبعثر خطواتي في ممرات الحديقة، أدق بأقدامي بين طرقات البيت لغايتي ورغبتي في ممارسة رياضة المشي التي يوصيني بها الأطباء والمتخصصون في علاج عظامي التي تسرب إليها في غفلة مني ما يسمونه (الانزلاق الغضروفي)، كما يوصيني بها أيضاً اختصاصيو الطب النفسي، كعلاج لتنشيط الروح والجسد والدماغ لمقاومة الاكتئاب والضجر والقلق الذي يفترسني منذ زمن لم أُدرك أسبابه وأجهل تاريخ نشوئه. 
لكن خطواتي تسير في رتابة متئدة كالساعة التي تدق بطيئة الرنين على خطى الزمن، لتغيِّر الحياة في زمننا هذا، وتحيلها في لهيب القيظ الذي يحول الإنسان من شعلة متقدة إلى رماد بارد يطفئ الآمال في وهج السنين. وحدي هنا الليل أقبع خلف ظلامه، لا شيء أرتقب، ولا شيء أترقب! لا شيء غير كل يوم يقتات من مسامي، يمتص مني دمي ومن خيالي فتنة الشعر وبريق الحلم، لا شيء غير غد أرقب وعده بصحوة الآمال. لا شيء غير النهار أرقبه لينجلي وأنتظر، لعل في المساء أن تشفق السماء بطلعة النجوم ويجود السحاب بدفقة ولو قليلة من المطر، فيوقظ أشجار حديقتي من ذبولها، وتزهر ثمار التوت وقد صوّحتها حرارة الصيف الذي ما مرّ عليها قبل أعوام وأعوام. حين كان الفل والياسمين والورود تزهر وتتفتح وترشّني بالعطر حين أصحو، وتتمايل أغصانها بين يدي في هدأة المساء. 
لعلها أمنية تهمس وتقول لي: دعي اليأس جانباً، فلا بأس ولا خوف لمن ينتظر، لكن غير المساء أرقبه من مكمني وعزلتي وأنتظر الشروق كل يوم يستيقظ فيه حلمي. وهكذا تهمس لي الأماني في كل ثانية وساعة، لكن كأنها أسطورة خفية البداية تقول إن عمرنا الذي يمضغه الانتظار في لجة السنين، حكاية مبتورة النهاية. لكنني لن أستسلم لموجة الكآبة، فحتى في عزلتي التي أدمنتها منذ سنين من أجل أن أخلو لهجس الشعر، سأبحر في التأمل، وللكشف في أسرار الكون وغرائب الكائنات والوجود، والإبحار والتعمق في معرفة أسباب التخلف الذي يحيق ببعض البشر وبالغباء الذي يحيلهم إلى كائنات أشبه بجلاميد الصخر الذي يعصى على الكسر، ويغرس في نفوسهم وعقولهم شهوة الانصياع لأوهام وأفكار العدم، وللحروب وامتلاك كل أسلحة الدمار التي تسابقت إلى امتلاكها بعض الدول التي لم تؤمن بأن السلام والمحبة هما السر العظيم لحفظ هذا الكوكب والبشر، وكل كائناته الطبيعية من الانقراض والفناء.