تصعد الثقافة اليوم ربما أكثر من أي فترة سابقة باعتبارها مكوناً رئيسياً في رأس المال الاجتماعي والإنساني، وقاعدةً أساسيةً للإصلاح والتنمية؛ فما من تقدم ينشأ من غير الوعي به، وهي قاعدة قديمة بالطبع لم تكتشف اليوم، لكن في هذه المرحلة الانتقالية التي تتبدل فيها الموارد والأعمال والأفكار تزيد الحاجة إلى الثقافة، بما هي وعي بالذات لترشد الأمم والأفراد نحو طرق جديدة لم تسلك بعد لأجل إنشاء حياة وأعمال جديدة مختلفة تتلاءم مع التحولات الكبرى التي تعصف بالعالم.

لكن الإصلاحيين، من الحكومات والجماعات والأفراد، يقعون في خطأ كبير حين يعتقدون أن الحلول الثقافية، بمعنى التوعية والإرشاد والتثقيف، هي الحلّ لمواجهة التحديات وبناء الفرص.

تساعد الثقافة في معرفة ما يمكن وما يجب فعله والوعي به في مجال التنمية والإصلاح، وتتصل المعرفة الثقافية بجميع مجالات العمل والتكوين، لأن التقدم والفشل لا يمكن الإحاطة بهما من غير الوعي بهما، وهذه أساساً عملية ثقافية، لذلك سنظل مضطرين إلى التداخل والتكرار لأجل الإحاطة بالمعارف والأفكار المتصلة بالتنمية والتخطيط، مثل الموارد الأساسية والمهن والأعمال والقيم والتشريعات المنظِّمة للحياة العامة والاقتصادية، وتقدير المحركات الأساسية للأمم والأفراد، مثل العدالة والحرية والمساواة والإتقان والثقة والحكم الرشيد، كما القدرة على مناقشة وتقييم التطبيقات العامة العملية (مثل الموازنة والإنفاق العام)، ومؤشرات التنمية الإنسانية (مثل الدخل والصحة والتعليم)، والتكامل الاجتماعي والتمدن السلوك الاجتماعي وأسلوب الحياة والعمارة والسكن والغذاء والدواء واللباس، والعادات والتقاليد والقيم والأعراف والتعليم، والمهن والحرف والأعمال، والتعليم المستمر والتعلم الذاتي، والآداب والفنون (الشعر والموسيقى والرواية والمسرح والدراما والسينما.. إلخ)، والإبداع كمحصلة لبيئة الثقافة والوعي.

وبطبيعة الحال فإن هذا الوعي يجب أن يعبّر عن نفسه في اتجاهات عامة تؤثر في السياسات والتشريعات، كما تنشئ اتجاهات فردية وجماعية في الحياة والعمل.

وهكذا يمكن ملاحظة تشكل اتجاهات وإيديولوجيات حول عدد غير محدود من القضايا والأفكار، مثل الدور الاقتصادي والاجتماعي للسوق (القطاع الخاص) والدور الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات، وإدارة وتنظيم العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص، الدولة والمجتمع، المجتمعات والقطاع الخاص، وملاحظة الفرق بين الواقع والتطلعات في مجالات يومية كبرى وصغرى، مثل تخطيط المدن والأحياء والبلدات، والمهن والحرف والأعمال، والخدمات والمرافق الأساسية، والبيوت والطعام واللباس، والرياضة والألعاب الشعبية، والمؤسسات المجتمعية، والبلديات، والأندية، والمكتبات العامة، والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات والجمعيات التعاونية، والتعليم والتدريب المؤسسي، وكيف يمكن الارتقاء بالمهن والحرف، ومهارات الحياة، والاعتماد على النفس، وفنون التعبير واللغات، والرياضة والصحة والسلامة، والعمل التطوعي والخدمة العامة، والانتماء والمشاركة.. إلخ. إن الثقافة نتيجة وليست مقدمة، وبصياغة أفضل فإن الثقافة تتشكل كمحصلة لبيئة اقتصادية واجتماعية وسياسية، لكنها أيضاً تؤثر في الموارد والأعمال والأسواق على نحو يحافظ عليها ويعظمها وينشئ أعمالا وموارد جديدة.

فالتقدم والإبداع حلقات متسلسلة يؤدي بعضها إلى بعض في متوالية لا تتوقف، إذ تنشئ المنظومة الاقتصادية بما هي موارد الأمم وأسواقها وأعمالها منظومة من السياسات والتشريعات لتنظيم وحماية هذه الموارد، ثم تتشكل حولها منظومة اجتماعية من القيم والعادات والتقاليد وأساليب الحياة والعلاقات والجماعات والطبقات.. وهذه تنشئ منظومة من الآداب والفنون والإبداع، وفي ذلك يستدل على التقدم والنمو بالثقافة، بما هي مؤشر للعلاقة بين التشكلات الاجتماعية والأفكار السائدة وبين الواقع. فالثقافة بقدر ما هي مرتبطة بالواقع فإنها أيضاً تساعد الفاعلين الاجتماعيين على إدراك الواقع واستيعابه، وإبداع الحلول والأفكار وأساليب العمل والحياة التي تجعل هذا الواقع بيئة للتقدم والتنمية.

*كاتب أردني