قبل خمس سنوات خرجت من مشاهدة فيلم إنجليزي جميل للغاية اسمه «me before you»، وكان يحكي قصة شاب منطلق نحو الحياة إلى أقصاها، يمارس الرياضات، ومتع الدنيا والأسفار، وفجأة يحدث له حادث يصيبه في النخاع الشوكي، وطلب من والديه مهلة ستة أشهر ليقرر بعدها طلب الموت الرحيم الـ«يوثانية»، لأنه لم يستطع أن يتأقلم مع حياته الجديدة على كرسي مدولب، وإن كان هناك حب وأمل طرق بابه، لكنه لم يتحمل أن يكون عبئاً، ولا عاجزاً، ولا تلك النظرة الحانية إلزامياً التي يراها في عيون وتصرفات الناس.
تلك القصة كم هي تقترب وتقارب، وكم هي تتناقض وتتباعد مع قصة أسطورة الملاكمة العالمي، والتحدي الأسود في الرياضة والسياسة والعمل الخيري «محمد علي كلاي»، ولعل الربط توارد لذهني لأني سمعت بوفاته بعد مشاهدة ذلك الفيلم الرائع، ولعلها من الصدف التي تتزامن، محركة شعوراً ما في النفس، لا تجعلها تبدو كما كانت قبلاً، «كلاي» أسطورة حيّة متجلية، كنّا نرى مبارياته بداية بالأبيض والأسود، ثم الملون، كنّا نسهر الليل بطوله لنستمتع أو بشكل أدق لنشجع ونفرح لفوز كلاي «المسلم» مثل فرض العين والواجب، كانت مبارياته فجراً بتوقيت البلدان العربية، لكن كان يحضرها الصغير والكبير، وكان «كلاي» يثب كالنمر، ويلسع كالنحلة، ويتحرك ويتراقص بخصومه بخفة الفراشة، لكن «كلاي» ليس الملاكمة وحدها، ولا تحدي اللون الأسود، وفرض انتصاراته، ولا إشهار إسلامه في المجتمع الأميركي، ولكن مواقفه من الحروب، ورفضه المشاركة في حرب فيتنام، وقد دفع ضريبتها حينها، لكنه لقي احترام الناس وتقديرهم لنبله، وفروسية موقفه.
فجأة يصاب «كلاي» بالمرض الرعاش، ربما بسبب وراثي، وربما بسبب التقدم في العمر، لكن حينها وقع اللوم على الملاكمة ووحشيتها، وتلك الضربات التي يتلقاها الملاكم، رغم أن «كلاي» قليلة تلك الضربات التي تلقاها، لكن واحدة من لكمات «فريزر» أو خصومه وقتها -وقد غابت أسماؤهم لأن للمنتصر وحده الخلود- كفيلة بعمل ارتجاجات في الرأس، يومها حزن العالم، وكان حزن «كلاي» لا شك كبيراً، ومؤلماً، فهو حبس جديد لم يعتده صاحب الجسد الرياضي، الواثب كالنمر، اللاسع كالنحلة، الخفيف مثل فراشة.
كثيرون قد لا يتحملون هذه الانتكاسة الكبيرة في الحياة، فيضيعون في دروب الحياة، وينهون حياتهم بطريقة مأساوية، بعضهم ينهي حياته بالموت الرحيم كما فعل بطل فيلم «أنا قبلك»، لكن «كلاي» انحاز للعمل الإنساني، وانحاز للفكر والحكمة، وفلسفة أمور الحياة، انتقل من قوة العَضَل إلى قوة العقل، وقضى وقتاً ممتعاً في سنواته الجديدة، لكن منظره، وتحركاته كانت تفطر قلوب محبيه، وكان يدرك تلك النظرة المتعاطفة معه، لكنه كان قوياً بإنسانيته وأفعالها.
رأيت «كلاي» في صغري، وهو بكامل عافيته حينما زار أبوظبي لأول مرة، وأذكر الجامع الذي صلى فيه صلاة الجمعة يوم ذاك، والذي هو مقابل قصر الحصن، وكيف امتلأ بالناس، وكانوا فرحين لأنهم شاهدوا أسطورة الملاكمة بينهم، ويصلي معهم الجمعة، بعدها عاد «كلاي» للإمارات، لكن هذه المرة يسحب معه مرضه، وقد تخلى عن قفازاته المطاطية، باسطاً يدين من خير وإحسان، وخدمة الإنسان، وما يمكن أن يعيقه من مرض أو رياضة عنيفة أو حروب مجبر عليها، كان «كلاي» هذه المرة أقوى بإنسانيته.