مع اتساع حدقة التطور، وتوخي البشر فرادة في المركز الاجتماعي، أصبح من الصعب جمع رأسين على وسادة الألفة، والتضامن النفسي، حيث الأنا أصبحت بحجم غرفة واحدة ولا تتسع لآخر، والنفس المتضخمة لا تبقي ولا تذر، وهي بين السطور رحلة مسومة بالأسى، والكدر، وعتمة النظر.
اليوم أصبحت العزلة ملاذاً آمناً للذين يودون أن يسكنوا عند النجمة بعيداً عن غبار الأرض، والذين يحبذون الزوايا المغلقة ولا يفضلون الباحات المفتوحة على شارع مزدحم بالأصوات، والأضواء ولم تعد فكرة «حشر مع الناس عيد»، بل إن الطفل الصغير عندما يفتح عينيه صباحاً لا ينظر إلى وجه أمه، وإنما يذهب فوراً، مفزوعاً، يتقصى وضع اللابتوب إن تم شحنه أم لا، ولو لم يفي السلك الكهربائي بوعده، ولم تتم تغذية ذلك الجهاز الأصم بالطاقة، اللازمة فإن قيامة الصغير ستقوم، وسوف يغضن الجبين، ويعقد الحاجبين، ويسح الدمع من العين، وتهرب الشمس، مختبئة خلف غمامة داكنة، بحيث لن ترى الأم ابتسامة على وجنة صغيرها، ولو حاولت تهدئته، فسوف تسمع صرخة مدوية تخرج من فيه كطرق الرعد، ولن ينفك عن إبداء تذمره، واحتجابه على العطب الذي أصاب يومه جراء فقدانه أنيسه، وجليسه، والشعور بخواء الحياة من دون برامج اللابتوب المسلية، والتي هي الصاحب، والخل الوفي، هي الحضن الذي منه تنبجس ملاءة الدفء، ومنه تنبثق أحلام اليوم، وحتى يتم إصلاح ذات البين في ذلك الجهاز، يظل الصبي في حالة اللا توازن، يظل يشكو الفراغ الوسيع والذي يطوقه بأسلاك كهربائية تحز عنقه، فلا يستطيع التنفس بعفوية، ولا يمكنه الحديث مع أحد، لأنه فقد حنجرة جهازه الذي يتحدث مع الآخرين من خلاله.
هذه هي يوميات طفل أدبر وتولى، وخابت المساعي لاسترداده لأنه استوطن جزيرة نائية، وألف سطحها، ومحتواها، وما عادت عواطف الدنيا كلها تهمه، أو تلمه، لأن في الجزيرة تلك، عثر على وجهه، ولسانه، ومهما استبد به الوقت فهو لا يرى في الوجود حضناً غير هذا اللابتوب، فاحذروا يا أولياء الأمور من هذا الجهاز بكل ما له من محسنات بديعية، فهو قنبلة موقوتة، إن لم نحدد علاقة أبنائنا بها، وبنظام وتقنين، وتأمين، ولا مجال هنا للتخمين، ووضع المبررات، فالأطفال عبيد الخيال، وفي هذا الجهاز تكمن أوسع الخيالات خطراً، وأولها العزلة، وآخرها التوحد.