سمير ديلو، قيادي برلماني في حركة «النهضة» الإخوانية، وقد أدلى بتصريحات متتالية لصحيفة «المغرب» وإذاعة «موزاييك» الخاصة، أقر فيها بوضوح أن ما يجري في تونس ليس انقلاباً على الشرعية كما صرح زعيم الحركة راشد الغنوشي، بل هو نقمة احتجاجية عارمة ضد الوضع السياسي المسدود. وقد طالب «ديلو» حزبه بتفهم القرارات الاستثنائية الأخيرة والتفاعل الإيجابي معها للخروج بالبلاد من المحنة التي تتحمل حركته جانباً كبيراً من مسؤوليتها، بدلاً من الخروج إلى الشارع والتمرد على نظام الحكم.
هذا التصريح يكشف عن الوضع الحرج الذي وصلت إليه حركة «النهضة» بعد عشر سنوات من تصدر المشهد السياسي توزعت بين استلام الحكم والمشاركة فيه.
عندما قدم الغنوشي إلى تونس في 30 يناير 2011 إثر سقوط «بن علي»، بعد سنوات طويلة من المنفى في لندن، تعهد بعدم تبؤو أي وظيفة انتخابية أو تنفيذية في بلاده، داعياً إلى وقوف تنظيمه السياسي مع القوى التي فجرت الثورة وأسقطت العهد السابق.
ما حدث بعد ذلك أن حزب «الغنوشي» تحول بسرعة إلى ركيزة من ركائز تحالف قوى الفساد السياسي والمالي التي سيطرت على مقاليد الحكم وبددت الرصيد التونسي في التنمية الاقتصادية والإنسانية، وقد حرص هو نفسه على تولي رئاسة البرلمان الذي هو محور العملية السياسية والحلقة الأقوى في جهاز السلطة.
كان نجاح المدرس الجامعي قيس سعيد في انتخابات سبتمبر 2019، بنسبة تجاوزت سبعين في المائة من الأصوات الشعبية، حركة احتجاجية عارمة ضد نفوذ حزب النهضة وحلفائه. ومع أن الرجل لم تعرف له تجربة سياسية سابقة، ولم يكن له ظهير سياسي منظم، إلا أن الالتفاف الواسع حوله كان يحمل رسالتين أساسيتين هما:
- البحث عن قوة توازن في السلطة التنفيذية في مقابل قدرة حركة «النهضة» على نسج تحالفات برغماتية مكنتها من السيطرة على البرلمان والحكومة.
فعلى الرغم أن السلطة الرئاسية في دستور 2014 لا تتجاوز بعض الصلاحيات المحدودة، إلا أن رمزية الحكم الأعلى تمنح رئيس الجمهورية المنتخب شعبياً دوراً سياسياً بارزاً عند الضرورة والاقتضاء.
- دفع ديناميكية سياسية جديدة في الساحة التونسية، بعد انحسار زخم ثورة 2011. الديناميكية الجديدة تتمحور حول القوى المدنية النشطة والمؤثرة اجتماعياً، كالتنظيمات النقابية والحقوقية والنسوية.. التي تحملت المسؤولية الكبرى لمواجهة الأنظمة العاجزة التي تتالت على حكم تونس في السنوات العشر الأخيرة.
وبغض النظر عن قرارات الرئيس قيس سعيد الأخيرة التي جمدت البرلمان وأقالت الحكومة، فإن رئيس الجمهورية ومدرس القانون الدستوري استطاع النفاذ من هوامش الحركة المحدودة المتاحة له إلى موقع السلطة الحاسم، مدعوماً من القوتين الرئيسيتين في الساحة التونسية: الشارع الاحتجاجي والمؤسسة العسكرية الأمنية.
الذين لا يعرفون تاريخ تونس جيداً لا يدركون أن خطوة الرئيس قيس سعيد تندرج في إطار مسار طويل مألوف في بلاد الياسمين. 
في 25 يوليو 1957 تمكن الزعيم الحبيب بورقيبة من خلع الباي (حاكم تونس الموروث من العهد العثماني) وإعلان الجمهورية مدعوماً بجناحي «الحزب الدستوري»، المدني والنقابي، في إطار حركة تغييرية كبرى متناغمة مع مطالب الشارع التونسي، وإن كانت مناهضة للمرجعيات القانونية والدستورية القائمة.
بل إن أحداث يناير 2011 جرت في ظروف مماثلة، رغم الترتيبات التي وضعت من أجل احترام شكليات نقل السلطة وفق الأحكام الدستورية، فكانت التوافقات السياسية هي الإطار الناظم للحركة السياسية التي قادت إلى الانتخابات اللاحقة وإلى الدستور الجديد.
بطبيعة الأمر، لن يتوقف النقاش المألوف حول نظام الأولوية بين الحركية السياسية والشكلانية الدستورية، فكلاهما تترجم صيغة من صيغ السيادة الشعبية مختلفتين من حيث المحددات والمفاهيم: نبض الجمهور وتعبيره التلقائي من جهة، والموازين التمثيلية وأطر التحكيم الإجرائية من جهة أخرى. 
إلا أنه من البديهي أن تونس دخلت مرحلة جديدة من مسارها السياسي، ولم يعد بإمكانها الاستمرار في تجربة فاشلة أدت إلى تكريس الاحتقان الدائم والإفلاس الاقتصادي وانهيار مؤسسات الدولة بالكامل.
لقد قامت حركة «النهضة» وحلفاؤها بوضع النظام الدستوري والقوانين الانتخابية لصالحهم، بيد أن هذه الأطراف فشلت في انتزاع ثقة النخب البيروقراطية التونسية العريقة ذات الكفاءة العالية والتكوين الصلب. وما نلمسه اليوم هو بروز ائتلاف جديد بين هذه النخب والقوى المدنية والحقوقية، بدعم المؤسسة العسكرية، تحت الرعاية الرمزية لرئيس الجمهورية. وتلك فرصة يتعين على الجميع استثمارها وعدم تضييعها لانتشال البلاد من منحدر الضياع والتفكك.