في الصراع الأبدي والجدلي بين الجغرافيا والتاريخ، تظهر قوة الإنسان، ويبرز ضعفه، وبالتأكيد يكمن الشيطان في التفاصيل، وقد ظهر ذلك جلياً حين انهار الاتحاد السوفييتي، يقال أن اللبنة الرطبة التي تحت رأس «لينين» تصدعت، وأن الكثير من الجنود الأميركيين الذين شعروا بالنصر والارتياح من حرب باردة طويلة جداً، وكذلك المقموعون من الكتلة الشرقية الذين شعروا برائحة الحرية، تمنوا ليلتها أن يفرغوا مثاناتهم الممتلئة من كؤوس الأنخاب تحت جدران الساحة الحمراء أو على نصب الضريح.
بعدها كل شيء في تلك الخريطة الجغرافية الكبيرة المتفككة، أصبح قابلاً للمساومة، وعرضة للبيع بما فيه التاريخ والإرث، وكل تلك الخردة العسكرية بأسرارها الزائفة، وإن أقل بائعة هوى في الزمن الجديد قادرة أن تشتم «لينين» في قبره، وإن متحفه الخاص ظل يتردد عليه رجال الأعمال والسماسرة، والكل يريد أن يبتز التاريخ، ويشتري قطعة منه ببضائع استهلاكية كانت شحيحة، وممنوعة على الناس أو بدولارات خضراء لا يعرفها الشعب، وجريمة التعامل بها تعد خيانة عظمى، وتخابراً مع قوى أجنبية فيما مضى، لقد غدا المتحف القديم مهجوراً، وخالياً من المنتفعين الهاربين إلى الأمام، وحده ذلك الجندي المحارب القديم، ذو النياشين الصدئة على الصدر، والذي رافق «الرفيق» وسار على دربه، والذي فضل بعد التقاعد أن يظل حارساً أبدياً على أشيائه المتبقية، ولو لم يقبض «روبلاً» على ذلك، يكفيه أن يبقى بجانب التاريخ الذي أحب، وحين أمر أن يطفئ الأنوار في متحف لينين، وأعلموه أن كل الجبال والسهول والوئاد والأنهار المتجمدة قد فرطت وبقيت سابحة كقطع متناقصة نحو النيون والإضاءة الصناعية، وأن منجله قد كسر في الحقل، والمطرقة رمي بها في المنجم المغلق على عمال الفحم، وأن لا نجمة حمراء يمكنها أن تضيء مساء موسكو اليوم، قال ذلك الحارس العجوز مختصراً ثرثرة المؤرخين: «ماذا جرى لتلك الفكرة النبيلة النيرة»؟ وصمت حتى قبره!
من لم يحافظ على تراب الجغرافيا بالحب والعدل وصدق الفكرة، لا يقدر حتى أن يحافظ على غبار التاريخ الذي تذروه رياح الغرب المتوحش، لقد زحف سم الأرواح وجشعها اللحظي إلى تلك البقعة التي يرقد فيها «لينين»، وكانت تعد مقدسة قبل ذلك، في تلك الساحة حيث يتفاخر الجيش الأحمر بمشية الوزة المتكبرة، وتلك الاستعراضات الكبيرة في أكتوبر، لقد ظهرت أصوات لم تمانع كثيراً في تهديم تماثيل الرموز القديمة في الشوارع والساحات، وتنادي برحيل الجثمان المحنط منذ 1924، لقد طويت الصحف، وجفت الأقلام، ولا واحدة من الجمهوريات السوفيتية السابقة الشاسعة، قبلت بخجل أن تستضيف تاريخ «السوفيت» المحنط، كانت المبالغة والزهو الإجباري بالتاريخ ورموزه أيام المد الجغرافي، قابلها نكران، وجحود ولا مبالاة وتصغير حين تلاقت أضلع الجهات الشاسعة، وهذه المرة كل وطأتها الثقيلة على رأس التاريخ في صراعهما الجدلي والأبدي.