تستغرق الحكمة والفلسفات وحتى الحروب سنوات طويلة في حياة الشعوب لكي تنضج، وتشكل الإنسان الجديد، الصين لا يمكن أن تقارنها بأي بلد، كل يوم تثبت الصين لنفسها أولاً، وللعالم ثانياً، أنها قادرة على التحدي، وصنع المعجزات، ليس على مستوى العمران والبنية التحتية، وإنما بالاستثمار في الإنسان، رغم كل الكوارث التي تعترضها، طبيعية وغيرها، الغريب أن بعض دولنا، لو تتعرض لما تتعرض له الصين ولو بجزء يسير من الكوارث، لوجدتها باركة لا تعرف أن تحرك ساكناً، ولو كان فيها نشاط عمراني، ولو بجزء من عُشر من مشاريع الصين، لوجدت العراقيل الإدارية والمحسوبيات والرشاوى... في الصين المسألة محسومة، حيث تعد خيانة للمبدأ والمعتقد، في دولنا الثورجية يظل المناضل يحلف بكفن أمه، وطهارة بدنها، وبالوطن وقدسية قضاياه، ولا يشبع من الكذب.
الصين، التي تملك أكبر سبعة جسور من أصل عشرة جسور هي الأطول في العالم، أنجزت جسرها الجديد الذي يعد أكبر جسر عائم على وجه الماء، «هايوان كوينغداو» بطول 42 كيلومتراً، وفي مدة قياسية بلغت أربع سنوات، وبأيد وخبرة صينية صرفة، وبلغت كلفته حوالي سبعة مليارات ونصف المليار دولار أميركي، مختصراً هذا الجسر مسافة 30 كيلومتراً بين مدينتي «كينجداو وهوانجدو»، وموفراً قرابة نصف ساعة على المتنقلين بين المدينتين المتعملقتين اقتصادياً، وتم دعم هذا الجسر بـ «5200» عمود، مستوعباً مرور ثلاثين ألف سيارة في اليوم، واستخدم في بنائه 450 ألف طن من الفولاذ، وهو ما يكفي لبناء نحو 65 برجاً مثل إيفل، ويعد هذا الجسر من أقوى الجسور؛ بحيث يمكن أن يتحمل الأعاصير المدمرة، وزلزالاً بقوة ثماني درجات ريختر، أو تأثير ارتطام سفينة حمولتها 300 ألف طن!
تلك حكمة البناء الصينية، وتلك فلسفتهم في الحياة، منذ «كونفيشيوس» إلى يوم يبعثون، نسوقها لبعض دولنا العربية التي يمكن أن تصرف على التخريب والتجريب السياسي، والمغامرات «الثورجية» أكثر من مبلغ بناء الجسر الصيني أضعافاً مضاعفة، وليتها تعتبر، وتشرع في بناء جسور عملاقة تربطها ببعضها البعض، لتسهل حركتها، ومرور صادراتها ووارداتها، وليتها تتعظ من «الوقت الصيني»؛ فالناس خلال أربع سنوات يبنون جسراً عملاقاً، وهم يقضونها في التخاصم والتباغض والملاسنة، حتى إن بعضهم مستعد للعداوة ولو من أجل شاة عجفاء أو بعير أجرب، ومستعد لأن يصمَّ أذنية عن الحكمة الصينية!
ونسوق تلك الحكمة الصينية أيضاً لكثير من الدول العربية التي ما زال بعضها ينتظر من ربيعه الطويل حصاداً يجدي الناس والأنعام، وما زال بعضها يعتاش على المعونات والمساعدات منذ قديم الأزل، وما زال بعضها يسرق من قبل المفسدين فيه، والمسؤولين عنه، بما يوازي سنوياً بناء ستة جسور عملاقة على شاكلة جسر «هايوان كوينغداو»، وما زال بعضها يصرف المليارات على سلاح غير فتاك إلا بمواطنيها، وما زال بعضها ينخر الفساد مشاريعه التنموية الوطنية؛ فالطريق السريع يمكن أن يتحول بناؤه البطيء، وعلى المدى البعيد، إلى ميزانية تُعدَّل، فتُسرق، وتُنهب، وتكبر، وفي النهاية يتم تدشين طريق «خذ واهرب» الوطني، المعطوب والمسلوب، وما زال بعضها مرتبكاً من حكم العسكريتاريا؛ بحيث لا يمكنه أن يحدد أين يذهب مبلغ 55 مليار يورو من دخله السنوي، مؤكداً أنه في الداخل، لكن داخل جيوب بزات عسكرية، بنياشين وأنواط شجاعة، وبدلات فرنسية «سينييه»... وهكذا تمضي أيام العرب دون أن يدركوا معنى الحكمة التي تأتي من الصين، ويأتي، قبل الحكمة، العمل والجد وقبول التحدي على الدوام... هنيئاً لمن تقبل به الصين أن يكون شريكاً حضارياً لها!