منذ توليه السلطة، سارع الرئيس جو بايدن في التنكر للعناصر المحورية لنهج سلفه الخاص بشعار «أميركا أولاً» تجاه العالم. فقد عاد إلى الانضمام لاتفاق عالمي بشان تغير المناخ وأكد التزامات بلاده تجاه حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وعزز مسعى العمل عبر أطراف متعددة وتعهد بتقديم حقوق الإنسان على مكاسب صفقات السلاح العالمية. لكن في التعامل مع أطول حروب الولايات المتحدة أمداً، تتفق توجهات بايدن المحورية مع الرئيس السابق دونالد ترامب في الريبة من الانتشار العسكري الذي لا ينتهي والاستعداد لإنهاء هذه الحملات رغم المخاوف الأمنية. 

وأعلن بايدن، في كلمة من البيت الأبيض في الأيام القليلة الماضية، قائلاً: «لن أرسل جيلاً جديداً من الأميركيين إلى الحرب في أفغانستان دون توقعات معقولة بتحقيق نتيجة مختلفة». ويوضح حرص الإدارة على تنفيذ المغادرة السريعة وعزم الرئيس على المضي في هذا رغم المخاوف من استعادة «طالبان» السيطرة سريعاً على البلاد عدم ثقته في عمليات مكافحة الإرهاب، التي تستمر فترة طويلة ورغبته في تركيز موارد البلاد على الداخل. وهذه المعتقدات تتلاقى مع قناعات ترامب رغم الاختلاف الشديد في منطلقات الرجلين. 
ويرى «اندرو والدر»، الباحث البارز في الشأن الأفغاني بـ«المعهد الأميركي للسلام» أن خطة الانسحاب نجحت في تفادي وقوع ضحايا أميركيين، لكنها تترك قوات الأمن الأفغانية «في وضع صعب للغاية كما أنها تفقد الأراضي سريعاً». 

وعبر مسؤولون حاليون وسابقون عن مخاوف متزايدة مع تحقيق قوات «طالبان» التي تزايدت جرأة بعد مغادرة الأميركيين أكبر مكاسبهم منذ الإطاحة بالجماعة المتشددة من الحكم في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ومقاتلو طالبان يحاصرون عواصم الأقاليم ويستولون على المناطق الريفية أمام القليل من مقاومة القوات الحكومية أو دون أي مقاومة. وتعهد مسلحون مناهضون لـ«طالبان» بالتصدي لقوات الحركة مما أذكى المخاوف من نشوب حرب أهلية أخرى كما حدث بعد الانسحاب السوفييتي عام 1989. وأدى تصاعد هجمات حركة «طالبان» إلى تفاقم المخاوف بشأن احتمال سقوط الحكومة في كابول، وهو ما حذرت وكالات استخبارات أميركية من احتمال حدوثه في غضون فترة قد لا تزيد على ستة شهور. 

صحيح أن هناك مسؤولين يضعون قرار الانسحاب أساساً في إطار الارتباط باتفاق إدارة ترامب مع «طالبان» عام 2020. لكن القرار تمتد جذوره أيضاً لسنوات من مشاركة بايدن في معالجة حروب الولايات المتحدة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، من خلال تواجده في مجلس الشيوخ ثم انتقاله إلى منصب نائب الرئيس. فقد كانت بايدن أثناء توليه منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ لفترتين شخصية بارزة في استجابة الكونجرس على هجمات الحادي عشر من سبتمبر وصوت في بداية الأمر داعماً للحروب في أفغانستان والعراق. وأثناء إدارة أوباما، اعترض بايدن على طلب القادة العسكريين تعزيز القوات الأميركية بشدة. لكن الرئيس باراك أوباما انصاع في نهاية المطاف لقيادات الجيش وصعد بعدد القوات إلى 100 ألف في زيادة حققت مكاسب مهمة وإن لم تدم طويلاً. 

وحين تولى ترامب السلطة عام 2017، لم يكن لديه خبرة في الحكم أو في السياسة الخارجية، لكن كان لديه ولع بإصدار قرارات مفاجئة وغير تقليدية- غالباً عبر تويتر- وريبة فطرية تجاه إنفاق المال في الدفاع عن دول أخرى. ووعد ترامب بألا تصبح الولايات المتحدة، بعد الآن، «شرطي العالم». وسعى معاونون بارزون إلى صرف ترامب عن قرار الانسحاب الكامل من أفغانستان بالربط بين الوجود الأميركي هناك وبين احتمال قوع هجمات إرهابية أثناء توليه السلطة. 

وفي فبراير عام 2020، توصل مبعوث ترامب الخاص إلى أفغانستان إلى صفقة مع «طالبان» تلزم واشنطن بالانسحاب بحلول مايو 2021، إذا التزمت «طالبان» بشروط معينة، منها التوقف عن شن هجمات على القوات الأميركية وقطع صلتها بتنظيم «القاعدة». وجادل بايدن ومعاونوه أن الإدارة ليس لها خيارات كثيرة سوى الانسحاب من باب الالتزام بالصفقة التي أبرمتها إدارة ترامب لأن عدم الالتزام قد يدفع «طالبان» إلى تجديد هجماتها على القوات الأجنبية التي توقفت غالباً منذ فبراير 2020، وبالتالي المغامرة بالمزيد من أرواح الأميركيين. 

لكن بعض الخبراء في الشأن الأفغاني يرون غير ذلك، مجادلين بأن الإدارة كان بوسعها محاولة التفاوض في تمديد المدة لإعطاء محادثات السلام المزيد من الوقت للتقدم. أو كان بوسع بايدن ببساطة أن يبقي القوة الصغيرة البالغ عددها 2500 جندي هناك كتحد لـ«طالبان» خاصة والجماعة المتشددة لم تنفذ روح الاتفاق الذي أبرمه ترامب. لكن «جيمس دوبنز»، الذي عمل كمسؤول بارز بشأن أفغانستان في إدارة بوش الابن وأوباما يرى أن هذه حجة غير مقنعة، لأن اتفاق ترامب يلزم بايدن بالانسحاب السريع. ويرى «دوبنز» أن لا غرابة في السعي السريع للانسحاب، مع الأخذ في الاعتبار قصر المدة بين تنصيب بايدن رئيساً والموعد النهائي المحدد بغرة مايو بموجب الاتفاق الأميركي مع «طالبان». 

وفي الأسابيع التالية على إعلان بايدن الانسحاب، تصاعدت الضغوط حتى من داخل الحزب «الديمقراطي» لتعزيز خطط مساعدة آلاف المترجمين الذين أصبحت حياتهم معرضة للخطر بعد الانسحاب الأميركي. وحتى الأيام القليلة الماضية، ما زال المسؤولون يحاولون وضع خطط لنقل بعض هؤلاء جوا إلى بلد ثالث إلى حين فحص طلباتهم للقدوم إلى الولايات المتحدة. وتحاول الإدارة أيضاً وضع ترتيبات لعمليات «عبر الأفق» لمكافحة التمرد قد تتضمن شن ضربات جوية من قواعد في الخليج العربي أو مناطق أخرى إذا عادت «القاعدة» أو «داعش» إلى الظهور. 
ينشر بترتبب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»