سألني صديق فنلندي يشغل منصباً أكاديمياً رفيعاً في جامعة هلنسكي بشيء من التهكم: ما سرّ السعادة الجيّاشة التي تبديها احتفالا بنجاح دولة الإمارات العربية بإطلاق مكوك فضائي إلى المريخ؟ وعبّر الصديق عن تهكمه بالتساؤل: هل الصاروخ من صناعتكم؟ وهل التقنيات العلمية من إنتاجكم؟
فجأةً قفزت إلى ذهني حادثة شهيرة في تاريخ فنلندا، رويتها له مذكّراً إياه بها.
ففي عام 1617 تعرّضت فنلندا لعاصفة شديدة، حيث اجتاحت الأمواج المرتفعة بلدة «فاردو» وأغرقت أربعين من أهلها. يومها كان غرق أربعين شخصاً كارثة كبيرة بالنسبة لعدد السكان.
تقول الرواية إن الدولة الفنلندية حققت في الأمر واكتشفت أن السَحَرَة –نعمْ السحرة- هم الذين دبّروا تلك الفاجعة، فجمعت بقية السكان وأجرت تحقيقاً لاكتشاف السحرة المجرمين. انتهت العملية بتنفيذ حكم الإعدام في واحد وتسعين شخصاً، أي في أكثر من ضعف عدد ضحايا الإعصار.
لم يكن هناك أي تفسير آخر لما حدث سوى السحر، فكان الانتقام ممن اشتُبه في أنهم هم الذين بسحرهم الأسود أطلقوا الإعصار القاتل والمدمر!
في ذلك الوقت تقريباً، وتحديداً في عام 1648، كان المسلمون في الطرف الآخر من الكرة الأرضية يحتفلون بإنجاز بناء تاج محل في الهند، والذي تعتبره اليونسكو اليوم «درّة الفنّ المعماري الإسلامي».
بدأ العمل في بناء هذه الجوهرة من الرخام الأبيض في عام 1631، أي بعد 23 عاماً على حادثة «فاردو» في فنلندا. كانت ثقافة السحر سائدة هناك، فيما كانت ثقافة العلوم والهندسة والفنّ سائدة هنا.
لم تكن فنلندا وحدها تؤمن بالسحر. كانت اسكوتلندا مصدر إشعاع له، حتى ان الملك الاسكوتلندي جيمس الرابع نشر وثيقة حول السحر في عام 1597 اعتُبرت في ذلك الوقت مصدراً أساسياً لكشف السحرة وإبطال أفعالهم الشريرة. وتُعرف الوثيقة باسم «ديمونولوجي». وقد اعتمدتها الدولة الفنلدنية مرجعاً أساسياً وفرضتها أساساً لاكتشاف السحرة والتعامل معهم ومعاقبتهم.
في ذلك الوقت كان المسلمون يكتشفون عوالم الفضاء من خلال المراصد العلمية التي أقاموها في سمرقند وطشقند. وقبلهما في بغداد حيث كان المرصد العلمي الأول في العالم لمراقبة حركة النجوم والفلك !
هنا سألني صديقي الفنلندي: ماذا تريد أن تثبت لي؟
قلت له أريد أن أؤكد على أمر جوهري واحد، وهو أنه لا الجهل ولا المعرفة قضية وراثية تكمن في جينات البشر، يتوارثونها جيلاً بعد جيل. فلا الفنلنديون ولا الاسكوتلنديون هم اليوم أبناء ثقافة السحر والسحرة، ولا المسلمون والعرب هم اليوم أبناء ثقافة الخيام ورعي الجمال. إن الفنلندي ساحر الأمس، ابتدع أفضل نظام للتعليم في القرن الحادي والعشرين، تتهافت المؤسسات التعليمية في دول العالم المختلفة، من الصين حتى الولايات المتحدة وأوروبا، على دراسته لتقليده والاقتداء به. وابن الصحراء العربي يفاخر بأنه أطلق بنجاح علمي باهر مركبةً إلى المريخ، لينقل إنجازاتها إلى علماء الدنيا جميعاً.
فمن أبوظبي إلى هلنسكي، الإنسان واحد.. ومسيرة العلم لا تتوقف أمام عنصر أو لون.