قبل التطرق إلى هروب «ملك الكريبتو» بمبلغ كبير بلغ ملياري دولار، بودنا أن نشير إلى أن قصة هروبه يمكن أن تتحول إلى فيلم هوليودي مثير، فقبل ثلاثة أشهر هرب من تركيا إلى ألبانيا فاروق فاتح أوزير، الذي يمكن أن نطلق عليه (ملك الكريبتو)، وهو مؤسس شركة «ثوديكس»، والتي هي عبارة عن بورصة للتداول بالعملات المشفرة، حيث جمع من مئات المستثمرين مبلغ ملياري دولار بهدف استثمارها في عملات «الكريبتو» وتحقيق عوائد كبيرة، ساعده في ذلك حيرة المستثمرين الأتراك، الذين وجدوا أن أشكال الاستثمار مغلقة أمامهم، فالذهب، كملاذ آمن اختفى من الأسواق التركية، والمستثمرون في قطاع العقارات يتعرضون لتلاعب ومصاعب جمة، في حين تنهار الليرة يوماً بعد آخر ليتجاوز سعر الدولار ثماني ليرات، مقابل ليرتان في بداية العقد الماضي.

شكلت هذه الظروف بيئة مناسبة لعمليات الاحتيال، وبالأخص باستخدام العملات المشفرة التي يسيل اللعاب للوعود التي يطلقها السماسرة والمتعاملون بها، حيث صدق ولا زال الملايين حول العالم هذه الوعود التي لا تستند إلى معطيات اقتصادية علمية، إذ لا يستبعد ظهور «ملوك آخرين» للكريبتو في أماكن أخرى من العالم، خصوصاً وأن بورصات العملات المشفرة بدأت في الانتشار بسرعة البرق، ولم تعيق قرارات المنع انتشارها، وذلك بحكم اعتمادها على الإنترنت والتعاملات الرقمية.

وعلى الرغم من أن البنك المركزي التركي قرر حظر استخدام العملات والأصول المشفرة في شراء السلع والخدمات، قائلاً بأن هناك مخاطر كبيرة في تلك التعاملات غير قابلة للإصلاح، مما يعني أن الإجراءات التي بدأتها السلطات التركية بأصدار مذكرة دولية بالقبض على فارق وتسليمه قد لا تأتي بنتيجة. علماً بأنه حتى في حالة القبض عليه، فإن مبلغ الملياري دولار لن يعود للمستثمرين، بل متراكم الآن ربما في حسابات سرية وبأسماء متعددة يصعب الوصول إليها، مما يضع الخاسرين في مأزق حقيقي، خصوصاً وأن بعضهم وضع معظم مدخراته في هذه البورصة. دق ذلك ناقوس الخطر الذي أشرنا إليه في أكثر من مقالة، فقد أشارت صحيفة «واشنطن بوست» مؤخراً إلى أن إدارة الرئيس الأميركي تعكف على دراسة القواعد الحالية المنظمة لسوق العملات المشفرة لتحديد ما إذا كانت هناك حاجة لفرض قيود جديدة تهدف لتتبع الأصول الرقمية ومنع استخدامها في بعض الأنشطة، كالأنشطة الإرهابية». أما آخر هذه الإجراءات، فقد جاءت من بريطانيا التي أعلنت مؤخراً حظر أكبر بورصة للعملات المشفرة في العالم «بينانس»، معلنة أن المنصة لا يمكنها إجراء أي نشاط منظم في المملكة المتحدة، كما حذرت «هيئة السلوك المالي» البريطانية المتداولين من التعامل مع شركة «بينانس»، وطلبت منها إزالة كل الإعلانات الترويجية، كما حذرت المستثمرين من إعلانات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.

مثل هذه الإجراءات المشددة توضح إلى أي مدى أضحت أنشطة هذه البورصات تشكل خطراً على المستثمرين وعلى اقتصادات الدول، وذلك على الرغم من أن هناك شركات مصرح لها ومسجلة رسمياً للتداول في العملات المشفرة في العديد من البلدان، بما فيها بريطانيا والولايات المتحدة، حيث طالبت وزارة الخزانة الأميركية بفرض ضرائب على تحويلات العملات المشفرة بين الشركات لزيادة الإيرادات، مما يعني أن التعاملات بالكريبتو ستخضع لضوابط وأنظمة صارمة، علماً بأن مثل هذه الأنظمة والضوابط لا تشكل ضمانة بعدم فقد الأصول لأي سبب كان، بما في ذلك الخسائر الناجمة عن المضاربات أو الإفلاس، بالإضافة إلى عمليات الاحتيال والنصب والتجاوزات والأخطاء، فقد ذكرت «بلومبيرغ» شهر مايو الماضي أن شركة «بلوك فاي» المتخصصة في إقراض العملات المشفرة، أو دعت عن طريق الخطأ في حسابات مستخدمين لديها وحدات من عملة البيتكوين بقيمة عشرة ملايين دولار! فيما قالت الشركة إنها ستقوم باستعادة هذه العملات.

ما ذكر هو جزء بسيط من قمة جبل يمكن أن ينهار في أي وقت ويكلف المتعاملين خسائر باهظة، مما يتطلب الحيطة والحذر للمحافظة على المدخرات والأصول.

* مستشار وخبير اقتصادي