إلى حد ما حين يقع منك شيء ما يربك مسارك، يحدث فوضى في أفكارك، تعيد حسابات المسارات والأمكنة التي مررت بها، وتسترسل بالذاكرة كما لو لم تتذكر من قبل، وتعيد تساؤلاتها الحثيثة والدقيقة، وتعيد شكل المفقود مرات عدة في سرّك، بل وتصرّ على ثبات الرؤية، نحو الأشياء الجميلة، خوفاً أن تقع منك بمحض الطريـق، وما أكثر الطرقات الحياتية الآسرة، وما أجملها، وما أفطن الإنسان، فكلما فقد شيئاً جميلاً حزن عليه أشد الحزن، وكلما وجد شيئاً جميلاً، ولو بمحض الصدف، ينتابه الفرح العارم، إنها معادلة جميلة ما بين أن تجد، وأن تفقد، شعور متباين، ومحاصر بالأفكار والهنيهات، ونسيجها المكتمل مع الحياة وأسرارها وقيمها.
وإذا ما غيب الزمن الأشياء، ولم يعد أثر لها ينتظرك على عتبات الأبواب، لتظل مؤجلة، أو تظل في الذاكرة، فلا أبد ضائع ولا خالد، إلا ما ندر، فلابد من النسيان أن يطويه الأمد البعيد، ولكن ما بين الهنيهات الجميلة تجد ما أضعت، وما لم تضع، مثلما تجد السماء لها حضوراً أمام النهر الصافي البهي، تجد انعكاساً لها، تجد ملامح الغيوم تزف لها الوجود كما لم تفقد نسمات حالمة مرت من أمامها كالطيف.
فكلما أحلت الفقد إلى حضور جميل ورائع، وكلما شعرت بالحب واليقظة والإيحاءات المطمئنة، تشعر بأنك تمسك بدقائق الحياة، وبأحلامها وبالرؤى المختزلة، التي لا توصف وكأنها تبث في نفسك إيقاعات جميلة ندية وتخلق في القلب اختلاجات حاضرة كأنها الفرح المستلُّ من سحابة السماء، تفاصيل ترمي إلى نشوى الحياة وقيمها ولذة التعامل معها.
في أعمارنا الصغيرة كنا نتسابق إلى نهاية محددة احتسبناها مسبقاً، وبعدها يكمن فرحنا بالفوز، ومع مرور الوقت ينضج البهاء الذي لم نحتسبه والذي تركناه خلفنا، نتصفح وصايا الكبار ومكمن الخوف بالزوايا وقد فرّت تلك الأقفاص إلى الأبد، ولم تفر منا ذكرياتنا، تظل جميلة ذات معرفة تكمن بالدم ويحرك مسارها الزمن في استهلالات مختلفة ويقظة، وقد يسمو فينا كل شيء جميل ومبتكر من روض الورد إلى السماء الداكنة، إلى قطراتها المطريّة النقية الشافية الباردة، إلى ولوجها في النفس وتحدثها عن الجمال كمسار رقيق وشفيف يلف الوجد الزاهي.
قراءة حالة النسيان بإتقان لا يهزم الذاكرة ولا يشعب الحياة، بل يرسم حولها لوحة زمنية جميلة يخلق من ألوانها شلالاً بصرياً أفقياً، والتماساً بما مضى وما هو في الآتي من الزمن، تجتمع الحياة وصورها في القول والحدث وسحر الكلام وشغف الحلم والنجاح، في قراءة متأنية المعالم، فكلما نضجت الأفكار، انتهجت لزمنك حياة لا تقف على الشتات.