إذا كانت نظريات الدفاع التقليدية تقيم قوة الدولة الشاملة من منظور عسكري واقتصادي وتكنولوجي، فإن وباء كورونا أضاف أبعاداً جديدة لقياس القوة الشاملة للدولة، هي صحة الشعب ومستوى الرعاية الصحية المقدمة له، خاصة مع فشل العديد من الدول المتقدمة في التعامل مع هذا الوباء، لدرجة أن بعضها لجأ إلى التخلي عن كبار السن في هذه الأزمة، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول مدى التزام هذه الدول بالأمن الصحي لمواطنيها، لهذا لم يكن غريباً أن تضع صحيفة «واشنطن بوست»، أعرق الصحف الأميركية في إحدى مقالاتها التي نشرت في السابع من أبريل 2020 صحة الشعب ووجود منظومة صحية قوية باعتبارها أهم المعايير الجديدة لقياس قوة الدولة الشاملة، وتحديد مركزها ونفوذها في النظام الدولي في مرحلة ما بعد كورونا.

إن التداعيات الكارثية التي ترتبت على وباء كورونا ستدفع العديد من دول العالم في المستقبل إلى التركيز على الاستثمار في الأمن الصحي لمواطنيها، وبنفس الدرجة من الاهتمام بالجوانب الأخرى، الاقتصادية والأمنية والعسكرية والتكنولوجية، وهذا سيكون في صلب السياسات الدفاعية والأمنية في المستقبل، بعد أن ثبت أن الاستثمار في منظومة صحية وقائية قوية من شأنها أن تعزز الرعاية الصحية لجميع السكان.

وفي الوقت الذي أظهر فيه فيروس كورونا هشاشة الأنظمة الصحية في العديد من الدول المتقدمة، وعجزها عن التعامل مع وباء كورونا، وفشلها في تحقيق الأمن الصحي لمواطنيها، فإنه في المقابل أبرز دولاً أخرى استطاعت أن تقدم نموذجاً ملهماً في إدارة هذه الأزمة، كدولة الإمارات العربية المتحدة، التي تولي اهتماماً استثنائياً منذ نشأتها مطلع سبعينيات القرن الماضي بالأمن الصحي والاجتماعي لشعبها، مواطنين ومقيمين، ضمن رؤيتها الشاملة للأمن الوطني، وهذا ما جسدته بوضوح مقولة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، «الدواء والغذاء خط أحمر ولا تشلون هم»، والتي تجسد في أبعادها حرص دولة الإمارات العربية المتحدة على ضمان الأمنين الصحي والغذائي لجميع من يعيش على أراضيها.

إذا كان وباء كورونا سيجعل من الأمن الصحي للشعوب أهم معايير قياس قوة الدول الشاملة وتحديد وزنها ودرجة تأثيرها في النظام الدولي، فإن العالم قد يشهد تحولاً في خريطة القوى الفاعلة في النظام الدولي في مرحلة ما بعد كورونا، حيث ستتعزز مكانة دول جديدة أثبتت أنها نموذج يحتذى به في إدارة هذه النوعية من الأزمات، التي تشكل تهديداً للأمن والسلم الدوليين، وعلى رأسها دولة الإمارات التي تمتلك كل مقومات الدولة القائد صاحبة التأثير والمبادرات الإنسانية عظيمة الجدوى، كما أن نموذجها في تعزيز الأمن الإنساني والمجتمعي ينطوي على العديد من الدروس الثرية التي لا شك سيكون لها تأثيرها الكبير على العديد من دول العالم في الفترة المقبلة، فصحة الإنسان تأتي في مقدمة أولويات القيادة الرشيدة ومحور معظم السياسات والاستراتيحيات الحكومية، كما أن هدف توفير الرعاية الصحية على مستوى عالمي يعد إحدى الركائز الست في الأجندة الوطنية لدولة الإمارات 2021.

في الوقت الذي احتاجت فيه التحولات الكبرى التي حدثت في العالم خلال العقود الماضية إلى فترات زمنية طويلة لبلورة معالمها ورصد إرهاصاتها، فإن فيروس كورونا منذ ظهوره خلال هذه المدة الزمنية القصيرة أحدث تحولات بالغة الأهمية في كافة المجالات، وبات الحديث عن مرحلة ما بعد كورونا كأنها حقيقة واقعة، لأن تداعياتها واضحة على الاقتصاد والأمن والسياسة والثقافة والاجتماع.. مرحلة ستشهد تحولاً في صياغة سياسات الدفاع والأمن القومي لتأخذ في الاعتبار مصادر التهديد غير المرئية التي تواجه الأمن الإنساني والاجتماعي لشعوب العالم، وطبيعة الأدوار الجديدة للجيوش وأجهزة الاستخبارات في إدارة هذه الأزمات الكبرى، وستعيد تقييم القوة الشاملة للدولة استناداً إلى صحة شعوبها ومستوى التزامها الإنساني والأخلاقي بمواجهة هذه الأزمات على الصعيدين الإقليمي والدولي.

* إعلامي وكاتب إماراتي