الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عن الحَجْر وما بعده.. إعادة بناء العالم

عن الحَجْر وما بعده.. إعادة بناء العالم
15 يوليو 2021 01:30

ترجمة: أحمد حميدة

لقد بيّن انتشار وباء كورونا أنّه في بضعة أسابيع، قد يصاب نشاط كوكبنا بتعطّل تامّ. وفي ظلّ هذا الوباء المستجدّ، غدونا ندرك أنّنا بصدد لحظة فارقة من التّاريخ سيرتبط فيها قدر كلّ واحد منّا بالمصير الجماعيّ للأحياء على هذه الأرض. فكيف سيكون العالم لو حدث وأن انتفت أسباب انتشار هذه الجائحة؟
في الستّينيات من القرن الماضي، كان أحد المتابعين المتبصّرين للأحداث الجارية على سطح كوكبنا الأرضيّ، قد شبّه عالمنا هذا بقطار-شبحيّ يمضي مندفعاً بأقصى سرعته، ولا سائق على متنه ليهدّئ من سرعته ويحدّد وجهته! وهذا «القطار» الذي ظلّ لعقود يسابق الرّيح على غير هدى، انتهى اليوم إلى حالة من الخلط بين الغايات والوسائل، فغدا الاستهلاك والنموّ والاقتصاد فيه، هي غايته الأثيرة والنّهائيّة. وهنا، قد تستفزّنا الحيرة، وقد ترتفع الأسئلة ملحاحة: ولكن ما فائدة كلّ ذلك؟ ثمّ كيف لنا أن نوقف هذا القطار؟ هل سيكون الوباء المتفشّي اليوم هو من سيقوم بكبح سباقه الجنونيّ نحو المجهول؟
يتيح لنا هذا الوباء حقيقةً فرصة غير متوقّعة وثمينة كيما نتوقّف ونكتشف حقيقة أخرى، وذلك بالتأمّل في الوجه المخفيّ للأشياء، ذلك الوجه الذي كنّا نتجاهله، ولكنّه أيضاً، ذلك الذي لم نكن لنتأنّى كيما نتمكّن من رؤيته. ومن يدري، لعلّ هذه الأزمة المفاجئة تكون فرصة سانحة للكشف عمّا آلَ إليه عالمنا ونلمس هشاشة المجتمعات التي نشيد، فرصة كيما نسائل تلك المجتمعات عن غاياتها وأولويّاتها، فنعدّل البوصلة، ونغيّر الوجهة قبل فوات الأوان.
لقد غدونا في ظلّ هذه الأزمة نرى عياناً بلداناً غنيّة تفتقر إلى ما هو أساسيّ، حكومات متردّدة وغير متأهّبة، مرتجلة وموهوبة للفوضى والفزع، هذا لو استثنينا حالة الدّمار الدّيمغرافي والسّياسي والاقتصادي والاجتماعي التي خلّفها ويخلّفها يوميّاً..الوباء. وكنّا قد أعلنّا مراراً فيما سبق أن «لا قدرة لمجتمعاتنا المعولمة على احتمال هذا النّوع من التحدّيات، وأنّ هذا الوباء قد يردي بسرعة غير متوقّعة، بورصات العالم واقتصاداته في حالة من الفوضى العارمة». وها إنّ إيمّانوال كوشيا، إحدى المتابعات للوضع الوبائي، تقدّم لنا تشخيصاً متبصّراً ومبرماً لتداعياته: «أي نعم! نحن لا نملك القدرة على الاحتمال ولا نحظى بالقوّة الكافية أمام الحياة، خلافاً لما كنّا نظنّ ولما كانت تروّج له دوماً الأسطورة الحديثة عن وجود علم بروميثيوسيّ يجعلنا قادرين على فرض سيطرتنا على كلّ الأشياء والتحكّم في النّبض السّاري في عالم الأحياء. ومع ذلك، غدونا ندرك اليوم أنّ أدقّ الكائنات (وهنا فيروس كوفيد-19) الحيّة بإمكانها شلّ الحضارة الإنسانيّة الأكثر منعة من النّاحية العلميّة والتّقنيّة. وأعتقد أنّ طاقة التّغيير الكامنة في هذا الكائن اللامرئيّ، جاءت في أوانها لتضع موضع السّؤال نرجسيّة مجتمعاتنا».

شركاء في هذا العالم
إنّ الواقع المنجرّ عن الوباء ليضطرّنا إلى النّظر إلى العالم في شموليّته. فلم يعد الأمر يتعلّق اليوم بمأساة تخصّنا نحن على وجه التّحديد، وإنّما ببلاء يجعلنا غير منفصلين عمّا يجري في بقيّة أنحاء العالم، لأنّنا لا نعيش حدثاً فرديّاً أو خاصّاً ببلد ما، بقدر ما غدونا شركاء في وضعيّة تهمّ الكرة الأرضيّة برمّتها. فنصف سكّان الأرض غدوا يعيشون اليوم وضعيّة الحجر الذّاتي، أي ما يقارب الأربعة مليارات نسمة. أفلا يشي ذلك بأنّنا في الحقيقة، بصدد كارثة هي أخطر حدث كونيّ عرفه الإنسان عبر تاريخه الطّويل؟
أولاً يذكّرنا هذا الوباء أيضاً، وبصورة مزعجة، بأنّنا نحن البشر متساوون لا محالة أمام المرض والموت، سواء كنّا أغنياء أو فقراء، أقوياء أو ضعفاء؟ وحتّى إن غدونا من جهة أخرى منفصلين عن أقاربنا، بفعل الحجر، أو بدافع احترام نظام التّباعد الاجتماعيّ، فإنّ ذلك يجعلنا نستعيد الوعي بمدى ارتباطنا بالمجموعة البشريّة التي ننتمي إليها، وبأهميّة التّضامن الطّبيعي الذي ينبغي أن يشدّ أفراد هذا «البيت المشترك» التي هي أرضنا، حيث لا حدود اصطناعيّة يكون بإمكانها منع تفشّي المرض وانتشار الوباء.

وماذا عن عالم الغد؟
يتساءل الفيلسوف التّونسي عبدالنّور بيدار في هذا الصّدد: «هل يمكن لهذه الأزمة أن تولّد عالماً جديداً، عالماً يخلّصنا من هذا النّظام المختلّ الذي يمعن في تدمير كلّ ما هو حيّ، الطّبيعة كما المجتمع، والذي لا يني يمتهن وجودنا ويكتم على أنفاسنا؟ هل يمكن للأمواج المتدافعة لهذا الوباء أن تحدث صدمة وعي في إنسانيّتنا المتعبة؟». كثير من النّاس يتمنّون ذلك ونحن منهم.
وهل بوسعنا أن ننتظر كما آخرون، أصواتاً صارمة وجسورة تزعجنا إلى استنفاد الطّاقة كيما تتوحّد أمام هول البلاء.. البشريّة جمعاء، وتحمل الخيّرين من النّاس على نسف منظومة المثل القائمة، التي باتت تروّعنا وتقضّ مضاجعنا. ولكن من سيكون بوسعه إطلاق مثل تلك الكلمات؟ هل هم أولئك الذين يحملون عالياً مُثُل تلك المنظومة؟ أم تراها أصوات أخرى، لا أحد ينصت لها؟ هل غدونا بحاجة، كما يأمل في ذلك البعض، إلى برنامج رقميّ يتلف ما خزنّاه في «قرصنا الأسود»، فينسف يقينيّاتنا وتصوراتنا القديمة، ويعيد بناء الحياة على أسس جديدة لا يطالها لاالفساد ولا الخواء؟
وهل يجوز لنا الاعتقاد بأنّه في نهاية هذه المحنة، سوف يطلّ علينا زمن تتوحّد فيه الشّعوب وقد ألّفت بينها مرارة الابتلاء، كيما تعيش متصالحة مع البيئة، ومتضامنة من أجل إشاعة السّلام وقيم الجمال والخير والحقّ أنّى توجّهت ركائبها؟ ولكن، أوليس من باب السّذاجة الاعتقاد في حلول ممكنة لمثل تلك الأيّام المشرقة.. الغنّاء؟

بأيّ أمل قد نتعلّق؟
كانت حنّا أرندت قد قدّمت في زمنها تشخيصاً مبرماً للوضع الذي نعيش: إنّ العالم الحديث برمّته يعيش حالة التأزّم، بالنّظر إلى أن الإنسان فيه لم يعد قادراً على التّموقع في التّاريخ، ويبدي فشلاً ذريعاً في بناء عالم مشترك. فيما تساءل إدغار موران: «كيف لنا أن نغيّر وجهتنا؟». فلئن كان بالإمكان إصلاح بعض عيوب هذا الزّمن، فإنّه غدا من باب المحال كبح التمدّد العلميّ والتّقنيّ والاقتصاديّ والحضاريّ الأهوج، الذي يجرجر كوكبنا نحو مزيد من الكوارث، ويدفع بها قسراً نحو مهاوي الهلاك والرّدى. ويخلص موران إلى القول بأنّ كلّ شيء غدا اليوم بحاجة إلى أن نتفكّر فيه من جديد..

أن نعيد التّفكير في كلّ شيء
هل نحن قادرون حقّاً على إنتاج فكر يتناسب مع الواقع غير المألوف الذي أنتجته الأزمة؟ ونطرح هذا التساؤل لأنّه من باب الجنون السّعي إلى حسم هذا الأمر بذات الضّوابط التي أسهمت في نشأة هذه الأزمة وتمدّدها.
إنّ ما نحتاجه حتماً هو رؤية جديدة، رؤية جديدة للإنسان في بعده التّاريخي والعلمي والسّياسي والرّوحانيّ والفنيّ.. رؤية تسبغ معنى جديداً على حيواتنا وعلى علاقاتنا بالطّبيعة والكون من حولنا، رؤية لا تغيب فيها القيم الإنسانيّة والرّوحانيّة والفلسفيّة، وتغدو فيها التّجربة الإنسانيّة أشبه بتربة معطاءة نعدّ في رحمها بذوراً خصيبة لمستقبلنا. ويضيف إدغار موران مؤكّداً على ذلك: «ولابدّ لنا من أن نتخلّص من خياراتنا المتعنّتة، التي تزعجنا إليها معرفة مشوّهة، قائمة على حبّ السّيطرة والرّغبة في الهيمنة».
ما نحتاجه هو تحوّل ثقافيّ عميق، قادر على تغيير منظومة المثل التي تأسّست عليها مجتمعاتنا الحديثة، ويتطلّب ذلك منّا خيالاً جديداً متوقّداً، ملهماً وواقعيّاً، وقائماً على معرفة رصينة ومتبصّرة، يتقاطع فيها التّاريخيّ والبشريّ والطّبيعيّ.

لنتغيّر كيما يتغيّر العالم!
لقد أنجبت حضارة الصّورة في عالمنا المعاصر ملايين المشاهدين الذين اعتقدوا، وهم قابعون على أرائكهم الوثيرة، أنّه بوسعهم التأمّل في المشهد من بعيد. والحال أنّ هذا العالم قد تشكّل وفق رؤيتنا نحن للأشياء، وسيكون الأمر كذلك في عالم الغد، أي نعم! نحن الفاعلون الحقيقيّون في التّاريخ، وإذا كان بإمكاننا تدمير ما شيّدنا وأقمنا، فإنّ ذلك يشي بقدرتنا على إعادة البناء أيضاً.
فلا تغيّر للعالم ما لم نتغيّر نحن، على أنّ هذا التّغيير لا يمكن أن يحدث ما لم يكن نابعاً من الإرادة الفرديّة لكلّ واحد منّا، لأنّ الإنسان خلال هذا الزّمن المعلّق للحجْر، قد يعود أدراجه بسرعة إلى الوراء متى انكشفت هذه الغمّة وعادت الحياة إلى سابق نسقها. ومن هنا تتبدّى أهميّة أن نتهيّأ لذلك على المستوى الأخلاقي والفلسفي والنّفسي، وأهميّة التّحفيز الجماعي، كيما نحافظ على وجهة صائبة ونحقّق التّوازن بين تطلّعاتنا وأفعالنا.
ويكمن الرّهان لتغيير هذه الوجهة، لا في السّعي إلى تغيير النّظام القائم، وإنّما في العمل على بناء عالم مغاير. ويذكّرنا إدغار موران بأنّ «التّاريخ البشري قد تغيّرت وجهته مراراً. ويبدأ هذا التغيّر دائماً بتحديث مبتكر، برسالة «منحرفة» تغيّر الاتجاه، رسالة قد تبدو في أوانها هامشيّة وبسيطة، ولكنّها لا تجلب في حينها ما يكفي من الانتباه».
ولذا ينبغي أن يكون لنا قدر من الجرأة يحفزنا إلى أن نكون مختلفين، بل وأن نقبل بأن يساء فهمنا، كما كان الأمر مع روّاد كثيرين جعلوا عجلة التّاريخ تدور، بل لا تتوقّف عن الدّوران.
لقد بات قطارنا يبحث اليوم عن وجهة جديدة، ولكن لابدّ لنا من أن نتذكّر أنّ تغيير وجهته، يفترض منّا تخفيض سرعته وأحياناً التوقّف، متى غدت الانعطافة منذرة بنهاية مبرمة. لنستثمر حينئذ لحظة التوقّف تلك لتغيير الوجهة، ولنمضِ قدماً بثبات مضاعف نحو المستقبل!

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©