أصدر الباحث الفرنسي «عمر مرزوق» مؤخراً كتاباً مهماً بعنوان: «ابن سينا أو إسلام الأنوار» يتضمن سيرة مهمة لأبرز فلاسفة الإسلام في العصور الوسطى. الكتاب يندرج في المقاربات الجديدة التي أعادت اكتشاف فلسفة ابن سينا بعد عقود طويلة من القراءات الاستشراقية التقليدية، التي تأرجحت إجمالاً بين النظر إليه كمجرد شارح غير دقيق لأرسطو أو كممثل للنزعة الغنوصية الفارسية (وهي الأطروحة التي يكررها المرحوم محمد عابد الجابري).
ما بينته القراءات الجديدة التي ترجع لكرستيان جامبيه وآلان دي لابيرا ويحي ميشو ومريم السبتي...هو أن ابن سينا هو المؤسس الثاني للميتافيزيقا بعد أرسطو الذي حاول أن يضع النواة الأولى لفلسفة أنطولوجية تتعلق بالوجود في كلياته ومشتركاته. إلا أن المشكل الكبير الذي طرحته ميتافيزيقا أرسطو بالنسبة للاهوتيين المسيحيين الذين تأثروا مبكراً بالفيلسوف اليوناني الكبير هو كيف يمكن الجمع بين البحث في الوجود من حيث مقوماته المشتركة ومقولاته الجامعة من جهة والبحث في علله وغاياته من جهة أخرى؟
إنه المشكل ذاته الذي طرح على فلاسفة الإسلام، وبصفة خاصة الكندي والفارابي. ما قام به ابن سينا هو إذن أكثر من مجرد مقاربة تأويلية جديدة لميتافيزيقا أرسطو وإنما إعادة بناء المشروع الانطولوجي كله انطلاقاً من أفق التعالي، الذي هو المنظور التوحيدي المفارق، الذي لا مكان له في السياق اليوناني. 
ومن المؤكد أن ابن سينا الذي عاش في نهاية القرن الهجري الرابع وبدايات القرن الخامس قد استبطن الأفكار الكلامية وأسس عليها مقاربة فلسفية جديدة تستند إلى ثنائيتين حاسمتين في تاريخ الفلسفة كله، وهما ثنائية الماهية والوجود وثنائية واجب الوجود بذاته وممكن الوجود الموجود بغيره.
ما تعنيه الثنائية الأولى هو الفصل بين الحصول في الأذهان والوجود الملموس في الأعيان، فالماهيات لا تتضمن بالضرورة الوجود الذي هو عرضي محتمل، بل هي محايدة إزاء الوجود والعدم والكلية والجزئية. 
أما الثنائية الأخرى فهي التي تحولت إلى الأرضية الأساسية للأدلة الكلامية المتأخرة على وجود الله، بالتمييز بين الموجود الأول الذي تتماهي ماهيته ووجوده، ولذا فهو واجب الوجود الأوحد والموجودات المخلوقة التي لا يمكن أن توجد بذاتها، ولا بد لها من منشئ ينقلها من الإمكانية المحضة إلى الفعل العيني.
وبغض النظر عن خلفيات هاتين الفكرتين في علاقتهما بالجدل الكلامي حول الصفات الإلهية والطبيعيات، فإنهما دشنتا آفاق نظرية رحبة في الفكر الانطولوجي، هي ما أطلق عليه مرزوق «التنوير الإسلامي».
ولعل أبرز هذه النتائج الربط الجوهري بين الذاتية الفردية كما في نظرية النفس والتعقل «السينوية»، وميتافيزيقا الماهية التي تسمح بانطولوجيا ثرية مكتفية بذاتها، في الوقت الذي تحيل فاعلية الوجود إلى مقاربة جامعة بين عقيدة الخلق الإلهي وحرية الإنسان الفاعلة.
إن هذا البناء الفلسفي الصلب الذي نلمسه في موسوعات ابن سينا الثلاث «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات» هو الذي وجه مسار الفلسفة الوسيطة في العصور اللاتينية المتأخرة، إلى درجة أن كتاب «الشفاء» كان أكثر المصنفات تداولاً في تلك المرحلة بعد «الكتاب المقدس» حسب ملاحظة آلان دي لابيرا. 
وإذا كانت الصورة الرائجة هي أن الغزالي قد رد على ابن سينا في كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة» خصوصاً في المسائل الثلاث التي كفر بها الفلاسفة(قدم العالم وعلم الله بالجزئيات وبعث الأجساد)، إلا أن الحقيقة التي لا غبار عليها هي أن الغزالي الذي لخص كتاب الشفاء في «مقاصد الفلاسفة» ظل «سينوياً» في كتبه المنطقية ونظريته في النفس. لقد دافع الغزالي من منظور سني أشعري عن عقيدة الإرادة الإلهية المطلقة في مواجهة الكوسمولوجيا الضروراتية الموروثة عن أرسطو، كما رفض الصيغة الفارابية الإسماعيلية لنظرية الفيض والعقول المفارقة، لكنه اعتمد المقولات «السينوية» في كلامياته الفلسفية، وهو النهج نفسه الذي سلكه خاتمة المتكلمين الأشاعرة فخر الدين الرازي. 
لا معنى اليوم لإحياء المشروع السينوي الذي هو جزء من التراث الفلسفي الوسيط، بيد أن الأفق الذي دشنه ابن سينا لا يزال خصباً، قابلاً للاستثمار والاستيحاء. 
ما يمكن الحفاظ عليه من هذا المشروع هو الفاعلية العقلية الحرة للإنسان القادر على إدراك حقائق الطبيعة وتكثيف معاني الوجود والترقي بالنفس إلى اسمى درجات التعقل والتخلق. إن هذه التصورات المستمدة من أعماق التقليد الديني وفق الصياغات الفلسفية المتاحة أوانها، هي ما دعاه مرزوق بالنفحة التنويرية في فكر ابن سينا.