تناول المغردون قبل عدة أيام مضت، قصة حقيقية وقعت في إحدى البلاد العربية خلال فترة سابقة من «الزمن الجميل»، وهي قصة تنم عن الوفاء والإخلاص والإنصاف، في زمن كثُر فيه الجحود ونكران الجميل وعدم الوفاء. وتذكر القصة محل الاستشهاد والتنويه أنه كان هناك حفل تكريم لطبيب بارع ومتمكن ومبدع في مجال تخصصه، أثناء زيارته لبلده العراق بعد غياب عنه دام أكثر من 15 عاماً، أصبح خلالها من كبار استشاريي أمراض القلب في المستشفى الملكي البريطاني بلندن.

إنه طبيب القلب الدكتور ضياء كمال الدين الذي ما إن اقترب من مدخل قاعة الحفل في بغداد حتى استوقفه منظر بائع الصحف اليومية، وكان رجلا متقدماً جداً في السن، وكان يفترش بعض الصحف اليومية على قارعة الطريق. نظر الطبيب بتمعن وضغط على ذاكرته ليسترجع ملامح الرجل المنهك، والذي شد ذهنه ذلك المنظر منذ اللحظة الأولى، وأعاد تفكيره في الزمن إلى الوراء، فتذكر ملامح ذلك الرجل العجوز المحفورة في ذهنه ومخيلته. دخل الطبيب قاعة الحفل ثم جلس، لكن ذهنه بقي معلقاً في ملامح وجه بائع الصحف، الرجل العجوز الطاعن في السن، وعندما نودي على اسمه للتكريم وتقليده وسام الإبداع والتميز، قام من مكانه مسرعاً، بيد أنه لم يتوجه إلى المنصة المعدة لاستقباله بل توجه إلى خارج القاعة بعيداً عن ردهة الحفل، وراح الكل ينظرون إليه في ذهول واندهاش وتعجب.. فاقترب من بائع الصحف وتناول يده وسحبه بها، ليفاجأ البائع العجوز ويقول: اتركني يابني وشأني، لن أفترش الرصيف هنا مرة أخرى بتاتاً. فرد عليه الطبيب بصوت مخنوق: أنت أصلا لن تفرش مرة أخرى هنا أبداً، أرجوك فقط تعال معي. ظل البائع يقاوم ويمانع والدكتور يمسك بيده وهو يقوده إلى داخل القاعة.

تخلى البائع عن المقاومة واستسلم لرغبة الطبيب الملحة، وهو يرى وجه الطبيب يحمر وعيناه تفيضان بالدموع، ليسأله: ما بك يابني؟ ماذا تريد مني أيها الرجل؟ لم يتكلم الدكتور وواصل طريقه إلى المنصة وهو ممسك بيد بائع الصحف العجوز، والكل ينظر إليه في دهشة واستغراب، ثم انخرط في موجة من البكاء، وأخذ يعانق الرجل ويقبل رأسه ويديه ويقول: ألم تعرفني يا أستاذ «خليل»؟

قال العجوز: لا والله يابني لم أعرفك، العتب على الكبر في السن وضعف النظر. فرد الدكتور وهو يكفكف دموعه بألم وحسرة: أنا تلميذك ضياء كمال الدين في الإعدادية المركزية.. لقد كنت تلميذك المتميز دائماً، وكنتَ أنت مَن يشجعني ويدعمني ويتابعني في عام 1966. ثم نظر الرجل العجوز إلى الدكتور واحتضنه بحرارة. وتناول الدكتور ضياء وسام التكريم وقلّده للأستاذ العجوز بائع الصحف، وقال للحضور: هؤلاء هم مَن يستحقون التكريم والتقدير والثناء والاحترام. ويعلق المغردون على هذه القصة بالقول: ما أضاع العرب وتسبب في ضعفهم وتراجعهم، لاسيما في المجالات التربوية والتعليمية والعلمية، إلا ما تعرض له المعلم من إهمال وتجاهل وعدم تقدير، أي نقص المعاملة التي يستحقها وتليق بمقامه العالي ومهنته المحترمة وبرسالته السامية، والتي جسّدها الأستاذ خليل علي أستاذ اللغة العربية في الإعدادية المركزية ببغداد، أيام كان العراق في طليعة الدول المتقدمة بالعلم والمعرفة.

إنها قصة حقيقية نُشرت وتناولها المغردون باهتمام وتمعّن، لما فيها من عبر ودروس، ولما احتوته من دعوة إلى رد جميل واعتبار لمن نذر نفسه لتكوين جيل كامل من العلماء والدكاترة والأستاذة والأطباء والمفكرين والمثقفين.. ممن أنشؤوا مؤسسات وشركات ومراكز بحوث وطوروا دولاً وبَنوا صروحاً علمية وثقافية وأدبية متنوعة ومتعددة، كانت راسخة رسوخ ولائهم وتضحياتهم الجسيمة. لذلك أنصفهم الشاعر العربي أحمد شوقي حين قال: «قم للمعلم وفِّه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولاً».

*كاتب سعودي