تبدو الرسالة واضحة من استمرار الخروج من أفغانستان بناء على تصور الإدارة الأميركية الراهنة من أن البقاء في هذه الدولة سيؤدي إلى مزيد من التبعات السلبية على المصالح الكبرى للولايات المتحدة، خاصة أن الرئيس جو بايدن يرى أن الحرب في أفغانستان لم تكن قابلة للفوز بعد 20 عاماً من خوضها، وهو ما سيفتح الباب على مصراعيه لمناقشة القرارات التي أصدرها الرؤساء الأميركيون في التعامل مع الحالة الأفغانية بكل تعقيداتها.

ومن الواضح أن الرئيس الأميركي لا يريد أن يتورط بالفعل في مزيد من الأزمات الجديدة لحرب مفتوحة لم تُحسم. وليس من الواضح أن هناك ضوابط أو محددات لحسمها، وبالتالي فإن ما قاله الرئيس جو بايدن للرئيس الأفغاني أشرف غني في لقائه في واشنطن مؤخراً يعكس ما تخطط له الإدارة الأميركية لاحقاً في التعامل مع تطورات المسألة الأفغانية، وذلك بالتركيز على الدعم الاقتصادي والسياسي وليس العسكري، وهو ما يشير إلى عدم وجود توجه أميركي حقيقي بمراجعة الموقف في ظل أية تطورات استراتيجية أو أمنية ستجري على الأرض في الفترة المقبلة، واحتمال أن يتمدد خطر حركة «طالبان» للسيطرة على الدولة بأكملها، وهو أمر متوقع في ظل ما يجري من تقدم في مواقع التمركزات الاستراتيجية.

وفي المقابل فإن الدعم الأميركي للمفاوضات بين القوي الأفغانية الداخلية يحتاج إلى مراجعة وأسس للتعامل. ولا يكفي أن يعلن الرئيس جو بايدن التزامه بذلك في ظل تعقد الوضع الداخلي، وتردي الأوضاع الإنسانية والاقتصادية بصورة كبيرة لن تستطيع الحكومة الراهنة مواجهتها بمفردها برغم كل الضغوط التي تمارسها الحكومة الأفغانية والساعية إلى تبني إجراءات أخرى في إطار الحفاظ على بقاء بعض القوات الأميركية، أو على الأقل مراجعة الولايات المتحدة لقرارها خاصة مع التوقعات بسقوط للحكومة وللنظام الأفغاني الراهن، وهو ما لا تنكره التقديرات الاستراتيجية الأميركية، والتي تتوقف أمام ضرورة استمرار الدعم الأميركي للداخل الأفغاني وإلا فإن السقوط وشيك ووارد، وبالتالي فإن الحاجة إما لإعطاء مزيد من الوقت للرئيس الأميركي لمراجعة تفاصيل الانسحاب، أو إقرار آليات أخرى.

وهذا الموقف الأميركي يشابه مع الفارق الانسحاب الأميركي من جنوب فيتنام عام 1975 عقب توقيع اتفاقية سلام سلّمت البلاد فعلياً إلى الجانب الشيوعي في هانوي.

وبالتالي فإن السيناريو المتوقع هو أن تتقدم حركة «طالبان» خاصة وأنها سيطرت على مناطق كثيرة بما ينذر بعودة الأمور إلى المربع رقم صفر، ولن يفيد بقاء مئات الجنود للحفاظ على أمن الدبلوماسيين فقط، وكذلك بقاء بعض العناصر العسكرية في مطار كابل خاصة، وأنهم سيعملون إلى جوار القوات التركية التي تعمل على توفير الأمن، ولحين اتضاح الأمور في الداخل مما يؤكد أننا ما زلنا في مرحلة انتقالية، وفي انتظار ما سيجري من سيناريوهات تدور أغلبها في دائرة الفشل المتوقع، والذي سيعلن عن نفسه مع أي تطور حقيقي أمنياً واستراتيجياً في الفترة المقبلة خاصة مع ترقب بعض الدول لما سيجري، ولعل هذا ينطبق على الجانب الهندي على سبيل المثال حيث إشكاليات الحدود التي تهدد الجميع، ولن تكون هناك أي دولة مجاورة لأفغانستان بمنأى عما سيجري من تطورات سلبية قد تهدد أمن الجميع، وفي ظل صراع كل من إيران والصين وباكستان وروسيا لتعزيز نفوذها في ظل الوضع الراهن من خلال اتصالاتها بحركة «طالبان». والمتوقع أن تعود لصدارة المشهد السياسي والاستراتيجي، خاصة مع التأكيد على أن «طالبان» ستلعب دوراً مركزياً في أي نظام مستقبلي في كابول.

* أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية والعلوم السياسية.