أول مدينة أوروبية زرتها، كانت لندن ذات الزخرف والسمعة والذكر الكبير، حلم كل صغير، لأنها كانت تتشكل في الذهن كمدينة تشع نظافة، ومغلفة، وأشبه بسيارة جديدة مقرطسة وتلمع من بعيد، لكنها فاجأتني بلونها الرمادي المكتئب، وببرودتها الكنائسية، وبذلك الشحوب في البدل الإنجليزية ذات الوبر الصوفي، كبطانية عسكرية مستهلكة، لكنها بقيت في الرأس مثل مدينة ملوكية عليك أن تحترم تقاليدها وقيمتها الحضارية، وزادت أهميتها لدي حين كبرت، أعجبتني باريس لأنها كانت متجددة، وتكبر معك، مرة كنت أراها في هيئة صبية بـ«جينز وتي شيرت أبيض»، ومرة ترتدي ثوب امرأة جليلة تتزين بـ«تايور من شانيل»، ومرة تشبه الصديقة الجميلة الثائرة، كزميلة عزيزة على «تشي غيفارا»، ‏ومرة أجدها لا تشبه إلا حالك وحالها.
في هذه المدن الكثيرة كانت هناك نساء كثيرات، صادقات، عابرات، وفيات، جاحدات، بريئات، مخادعات، ليس هناك.. مثل تلك المغنية اليوغسلافية التي تدعوك لعيد ميلادها وتقطع مئات الأميال لتحظى بتلك الليلة في شوارع بلغراد ومينائها النهري، والمشي حتى بزوغ الفجر، وليس هناك.. مثل تلك الإثيوبية التي تترك لك بيتها والجلوس مع أسرتها، وكأنك واحد منها، تسندك حين تسقط بك القدم، وليس هناك.. مثل تلك المحامية التي تضطرّ أن تجلس معها في قضيتها الشخصية في المحاكم الفرنسية، تدافع هي عن الناس، ولا تعرف أن تدافع عن نفسها، ليس هناك.. مثل طالبات الصفوف في مقاعد الدراسة الباريسية، ولا مثل من حملت أوزارك وأثقالك وقالت هيْت لك، وليتني أُحسن العد، مثل حمل وزر الحب.
في هذه المدن الكثيرة.. كان هناك أصدقاء حقيقيون، ما زالت صناديق البريد تشعر بدفء حروفهم، وما زلت تفرح من قلبك إن التقيتهم مرة في مدينة من هذه المدن.
بعض المدن خفيفة تشعر أنك لا بد وأن تلبس من أجلها قميصاً صيفياً، بعضها لا بد وأن تتدثر بالملابس الشتائية الغليظة، بعض المدن حين تدخلها تشعر أنك ضعيف، بعضها تشعر أنك صديق، بعضها تشعر أنك مستلب، وبعضها الآخر تشعر أنك مغبون ولا لك حقٌّ حتى في البقاء فيها، بعضها تشعرك بالضآلة من مبانيها وضجيج أنوارها وقسوة ناسها، بعضها تشعرك بالفطرة والبدائية وبطين الأرض البكر.
زرت مدناً كثيرة مقدسة، وزرت مساجد تاريخية وكنائس قديمة ومعابد لمختلف الأديان والملل والنحل، لأنها تلقى هوى في النفس، واهتماماً كبيراً منذ الصغر، هو جزء من فضول ودهشة المعرفة وفك طلاسم الأسئلة الوجودية الكثيرة، والتي تتبعنا منذ معرفة النون والقلم وما يسطرون، وحتى إدراك اليقين والمعرفة النورانية، ولحظات التجلي، والتبرك بعطر يد ذلك القطب المعرفي، لكن ليس مثل فجر مكي شعرت فيه ذات مرة بهبوب ريح باردة وساكنة، وغمرتني طمأنينة حتى كدت أطير، هي من المرات القليلة، والتي لا تتكرر إلا مرة واحدة، يومها شعرت بالفرح والحظ والحظوة وبقرب من عطايا السماء.