حين أطلق «رينيه ديكارت» الفيلسوف الفرنسي، مقولته الشهيرة «أنا أفكر إذن أنا موجود»، كان قد استخلصها من سيرورة طبيعية للكائن البشري، فما ميّز هذا الكائن عن الكائنات الأخرى كون الطبيعة وفق تطورها الخاص ميزته بعملية التفكير الحر الخلاّق التي أهلته للتفوق على كائنات الطبيعة الأخرى، فما عناه ديكارت «أنا أفكر» أنك منذ أن تولد وتنشأ تكون لديك القدرة طبيعياً بعملية مشعّة خلاّقة، أي أن دماغك ينطوي على طاقة حركية نشطة تلغي وتؤسس وتتجاوز نشاطها السابق إلى نشاط لاحق، وهذه العملية وحدها هي التي تؤكد حضورك ككائن إنساني، وليس كأي كائن آخر، ليس اكتشاف النار، واكتشاف الأداة هو ما يؤكد تفرد هذا الكائن، بل إن عملية التفكير النشطة والخلاّقة هي التي طوعت النار وابتكرت أدوات العمل وأدت إلى التطور الحضاري والإنساني عبر العصور، وهي التي أكدت تفرد هذا الكائن عن غيره من كائنات الطبيعة.
يمكن أن نتصور أو نعتقد أن ديكارت لم يطرح هذه المقولة كاستنتاج فلسفي خيالي فقط يضاف الى التراث الفلسفي، بل أطلق تنبيهاً يتضمن تحذيراً جوهرياً خطيراً نتيجة خوف وقلق من تنامي قوى عنف متربصة وملتبسة تسعى إلى تدمير هذه الطاقة، وهذا الوجود، فخاصية التفكير الحر تعني قدرة الإنسان على التطوير والحركة باتجاه التغيير والتبدل.. إن نظام الكون يتغير ويتبدل ذاتياً، أما نظام السيرورة البشرية فإنها تسير وفق منظومة التفكير والإرادة النشطة الخلاقة، فحلقات التطور البشري والحضاري وضعها الإنسان وليس الطبيعة المجردة، أي صنعت عبر منظومة التفكير النشط الخلاق وإرادة العمل والمعرفة المترتبة على هذا التفكير.
والتفكير هو نشاط هذا العضو (المخ)، الناتج عن عملية التفكير الذي يتوسل الأداتين المادية التجريبية، ونشاط العمل والتفكير الخلاق، فالمادية التجريبية تعني إخضاع عناصر الطبيعة بكل تجلياتها لقوة التفكير الخلاق من أجل الكشف والتجاوز والإبداع، إذن فـ«ديكارت» حين أطلق مقولته الشهيرة كان يطلق تحذيراً من أجل بقاء العنصر الإنساني في حالة نمو وارتقاء وتطور إيجابي، ولعله أدرك بقوة التفكير أن قوى مضادة ستنهض بسلطة تفسير متعدد الغايات لتدمير هذا الكائن، وأن هذه القوى بدورها أدركت أن صيغ التدمير تتم بأسلوبين:
الأول: القضاء على التفكير الحر بمنظومة قيم تتكرس عبر التهديد والعنف.
والثاني: القضاء على الوجود بشموليته وخصوصيته الإنسانية، وما الوقائع التي نشهدها في كل يوم سوى تأكيد دامغ على صحة الحدس الديكارتي!