كثيرة هي المدن التي لا تتركك في حالك، تدق نوافذ القلب بين الحين والآخر، هي مدن استثنائية، وإلا ما ظلت لصيقة بك، تتذكرها، وإن نسيت ذكّرتك هي، اليوم.. حين أعد تلك المدن التي زرتها، أخطئ في العد، مدن بعضها أحببته، وتمنيت أن أكرر الزيارة، بعضها كانت قطيعة دائمة معه منذ الوهلة الأولى، بعضها أحنّ له بين الحين والحين، بعضها الآخر زرته أكثر من عشرين مرة، ولا أملّ أو أكلّ، مدن مثل البساتين المظِلّة ادخرتها لسنوات التقاعد الخريفي، مدن بعينها تعيدني لذاكرتي ذخيرة السنين، ومتعها الباقية، مدن متجددة لا تشبع منها، مدن تشبه أكل المستشفيات، تبقى علاقتك بها من بعيد لبعيد، ولا تراها إلا لحاجة عمل أو مؤتمر، أو تجبرك ظروف الزيارة لسبب ما، وتكون حينها كالجالس على الجمر.
خلال هذه الرحلات على مدى العمر القصير، ركبت طائرات خاصة، ودرجات مختلفة، وطائرات تبدو مخصصة لشحن اللحوم، وطائرات عسكرية تصم الآذان لا يصل غيرها لتلك المناطق، وقطارات شحن، وقطارات درجة أولى، وسفناً عابرة، ومرات في أجنحة بحرية، وسيارات فاخرة ليموزين، لا أقدر أن أركبها في بلدي، ومرات في سيارات خربة، وسيارات تمشي بالكاز، أكلت في مطاعم فاخرة جداً جداً، قيمة البخشيش الأدنى لا يقل عن ألف درهم، فما بالكم بطاساتها وصحونها وكأساتها، وخواتم من تجلس أمامك، وعطورها، والفرو المعلق في تلك الخزانة المحروسة برقم، أكلت على رصيف المدن «ساندويتش حاف» وزجاجة كولا بالحجم العائلي، أو على مقعد يترجرج في مطعم شعبي على الطريق السريع، تنقلت من فوق إلى أعلى المساحات التي تسمح بها الحياة، ونزلت إلى أسفل الدرجات، نمت مرة في حديقة عامة في اللاذقية، وسكنت مرة في منزل خرافي على نغم موج البحر، جربت أكل الشعوب وعاداتها، استطعمت بعضها وأكثرها، أقلها هو ما عافته نفسي، جلست في بيت عائلة إثيوبية، وسكنت عند أسرة إنجليزية، وأسرة فرنسية، وبيوت الطلبة، وفنادق فخمة للغاية، كانت في غرفتي فوق الـ 21 فوطة بمختلف الأحجام، جلست أتأملها، وأتأمل الغاية منها، ومن أحجامها.
أنا هنا لا أكتب.. فقط أحاول أن أتذكر ما مرّ معي خلال تلك الأسفار، أجمل أكلة أكلتها في جبل جنوب فرنسا في «أكس بروفانس» عند عجوز يهودية مغاربية، كانت تقدم لي فطور شهر رمضان بيدها، وأسوأ أكلة أكلتها على مركب في مدينة هونج كونج، يومها رأيت كيف يكسرون مخ القرد، أكلت في بيوت مدن كثيرة في العالم، كان شهياً ودافئاً مثل أهله.
لم تكن عندي يوماً مشكلة في تذبذب الحال، واختلاف مستوى الأكل، والمركب، والمنام، لكنني كنت أحرص أن أجد مناماً مريحاً آخر الليل، وآمناً، وأجد حماماً نظيفاً يجعلني أغفو في مسبحه، وأستمتع ببرودة سيراميكه وبلاطه اللامع ورائحة فوطه. أحببت مدن البحر الأبيض المتوسط لدرجة العشق، أعشق المدن التاريخية، أشعر أنها كالجدات الدافئات أو كالأمهات الطاهرات، أكره المدن الزجاجية والتي يمكن أن تبيعك أي شيء حتى روحها أو مخدع ضناها!