لا البحر يرويه، ولا الريحُ تطوي جناحيه، ولا المسافةُ دربه ولا المكان بيت أمانيهِ. وإن أردت أن تتعرف إليه عن قرب، عليك أن تحمل أسئلة الوجود الثقيلة في صرةٍ على ظهرك وتطوف الحياة بحثاً عنه. ستراه يوماً في انعكاسات ظلالكَ وأنت تعبر منحنياً بجوار الجدران العالية وتُدرك أن أملاً ما بانتظارك وراءها. وربما ستسمع صوته في همس ذاتك مرةً، وفي خوفها مراتٍ، وفي صمتها دائماً. إنه الفيلسوف الذي ينام متخفياً في كيانك وشطحات عقلك. وهو الكلمة التي تنفرُ برأسها بين سطرٍ وسطر كلما بحثت عن حقيقتك في كتب التيه. ولو تُمعنُ قليلاً في التأمل، ستراه واضحاً في النقاء الذي يتجلى في ساعة الكشف. وليس مهماً أن تتحدثا، أو أن تقول له: أرشدني إلى طريق الضوء. بل يكفي أن تلتقيا لقاء السبب بالنتيجة، أو لقاء الضد بما يجعله ضداً.
 فهل عرفتـه؟
إنه الصوت. ذلك الصوت الذي يتحدث إليك من أعماقك الغائرة، نابعاً من جوهرك الأصلي، وأنت تسمعه على شكل أفكار تمورُ في عقلك ومشاعر تثور في قلبك وأحاسيس تسري كالقشعريرة في بدنك. هذا الصوتُ هو الذي قادك منذ الطفولة كي (تختار). وهو الذي يتركك حائراً في كل مرة، لا تعرف هل أنت ترغب في الشيء أم عكسه، هل تذهب شمالاً حيث الحرية بانتظارك، أم تنعطف يميناً وتتذوق حلاوة العشق. ومن روعة هذا الصوت الداخلي أنه يمنحك الحرية إن اخترت الذهاب هنا، أو الذهاب إلى هناك. والحرُّ هو من يختار، والحرُّ هو من تقوده اليقظة ليكون سيد مصيره، ونقيضه الجاهل الذي تجرّه الغفلة بخيوطها اللامرئية ليتبع السراب. فهل عرفته؟
إنه الصوت. ذلك الصوت الذي تكتمه في ساعات الخوف، لكنه يعود ليظهر في خلواتك ويؤنبك ويوبّخ فعلك. وهو الكلمة التي تقترب من حافة لسانك، لكنك حين تتحدثُ تنطق بعكسها فتصيرُ في أعماقك جرحاً وندماً. ماذا ستفعل إذن بصوت الحرية هذا؟ صوت الاختيار الحر هذا؟ جرّب أن تدرّبَ أقلامك على وخز ضمير الورقة، لا تكتف بالمسحِ على سطورها. جرّب أن تقف يوماً أمام المرآة واتركها تتحدث هي معك. وحين تذهب إلى المرأة التي تحبها، شقّ أمامها قميص التردد واصرخ بأعلى صوتك بكلمة الحب.
أنت وحدك تدركُ أن الإصغاء لصوتك الداخلي هذا هو ما سيقودك لتكون حراً للأبد.