أبدعت إيطاليا في تقديم نفسها مع بداية اليورو بشكل مختلف تماماً عن الصورة النمطية التي لازمتها منذ زمن بعيد، صورة الفريق الذي يتمثل روح «الكاتناشيو»، ولا يجد ضيراً في أن يجلس لساعات خلف أجهزة الرادار يحصي أنفاس المنافس، ويتحكم في مجرى الهواء، فما اقترحه الأنيق روبيرتو مانشيني على «سكوادرا دي أزروا» منذ قدومه للإشراف على الجهاز الفني، كرة قدم جذابة وأنيقة تظهر مفاتن إيطاليا الهجومية التي تخفت لعقود من الزمن وراء مساحيق الدفاع الخرساني.
طبعاً هكذا كان في كل المباريات التي خاضها المنتخب الإيطالي في دور المجموعات وفي الدورين ثمن وربع النهائي، إلى أن كان اللقاء الموعود مع إسبانيا في الدور نصف النهائي.
تفننت إيطاليا في التعبير خلال كل المباريات التي لعبتها قبل ملاقاة «لاروخا» عن الروح المبهجة التي أحضرها مانشيني، فلا أنا ولا أنتم شاهدنا إيطاليا تبرز ذاك السخاء الهجومي الذي حضر في خمس مباريات، وتظهر كل تلك البراعة في تنزيل فكر مدربها الأنيق، حتى أجمع كلنا على أن هذا المنتخب هو الأجمل بين كل منتخبات «اليورو» في تمثل واجبات كرة القدم الحديثة والأحق من غيره بالظفر باللقب.
ومع حلول لحظة ملاقاة المنتخب الإيطالي لنظيره الإسباني في الدور نصف النهائي، تساءلنا جميعاً، ماذا يا ترى هو فاعل مانشيني لمواجهة كرة قدم إسبانية تسيدت المشهد بـ «التيكي تاكا» القائمة على فن الاستحواذ وملكة الضغط الخانق؟
هل سيكابر ويثبت على منظومة لعبه بكل ما كانت ستفتحه من فوهات تنطلق منها شرارات حارقة؟ أم يا تراه سيُعمل العقل في تقدير حجم المخاطر، ويتنازل ولو للحظة عن دعامات كرته الجميلة، ويعود إلى توابل الكرة الإيطالية القديمة، إلى تعذيب المنافس ونصب الجدارات الإسمنتية أمامه؟
والحقيقة أن مانشيني آثر عدم الاصطياد في المياه المحرمة، وقبل على مضض أن يترك لمنتخب إسبانيا الاستحواذ والكرة، ويقفل في وجهه الممرات والشرفات ويتركه معذباً بكراته العرضية وبسيوفه الخشبية، وقد كان محقاً في ذلك، لأن ما شاهدناه من المنتخب الإسباني استعراض للمهارة الجماعية في الاستحواذ وفي الضغط العالي، وقدرة رهيبة على استعادة الكرات بشكل سريع، ما كان يفرض على إيطاليا أن تستنجد بأسلوبها التقليدي الذي يجعل من المرتدات السريعة السلاح الأقوى لردع منافس مكتسح، وهو ما مكنها من التقدم في النتيجة أولاً بهدف كييزا، وحتى عندما تعرضت لضربة مباغتة نجم عنها هدف التعادل لموراتا، حفرت للمباراة أو بالأحرى ما تبقى من زمنها خندقاً أوصلها لضربات الترجيح التي صعدت بها إلى النهائي الحلم.
صحيح أن إسبانيا لم تستحق بأي حال إقصاءها لأنها كانت الطرق الأفضل، ولكن إيطاليا أثبتت أنها قادرة على العبور حتى لو طالت المعابر المظلمة.