مثلي مثل ملايين حول العالم، أنتظر الجزء القادم من المسلسل الإسباني «وقد صار عالمياً» واسمه بالإسبانية (La casa de papel)، ودرجت تسميته بتسميات مختلفة على منصة «نتفليكس» فكان اسمه بالعربية «البروفيسور!». اسمه الأصلي، ربما يكون الأكثر دقة وقرباً من فلسفة نجاح هذا العمل الضخم. فالترجمة من الإسبانية للعنوان تصبح «بيت الورق».. وأي ورق؟
منصة نتفليكس، متخمة وبكل اللغات الأصلية والمترجمة بأعمال الإثارة والتشويق والإنتاجات القادرة على رفع منسوب الأدرينالين في الدم، وربما أكثر من مسلسل «بيت الورق» نفسه، لكن هذا العمل الإسباني تفوق إلى حد كبير بنسب المشاهدة حول العالم، والسبب لا يكمن في جرعات التشويق والإثارة والحركة فقط، بل في تلك الفكرة الكامنة فيه. المسلسل نفسه إن جاز التعبير، يحمل فيروس شديد العدوى، إذا التقطته مجسات المشاهد فسيتابعه بتعاطف شديد مع «عصابة اللصوص» يصل إلى مرحلة أنك تشعر بألم جرح مفتوح لأحد أفراد العصابة، لكنك لا تأبه لمشهد احتراق رجل الأمن بالنار وهو يقتحم المصرف.
المسلسل نفسه لم يخف ذلك التعاطف «الجماهيري»، من خلال المشاهد المتكررة منذ موسمه الأول حتى موسمه الأخير بتعاطف الناس المتظاهرة والمحتجة على «السلطة» لا على «العصابة» أمام البنك، بل إن الناس كانت دوماً تحاول حماية «العصابة» نفسها. لكن، واحد من المشاهد العديدة التي لا يمكن لأي متابع للمسلسل نسيانها، بل إن المشهد يغرس نفسه في المخيلة حتى العمق، هو مشهد تلك الأوراق النقدية المطبوعة وقد تم توضيبها بمصفوفات وبحجم هائل يجعلك تتساءل في النهاية:
ما هي القيمة الحقيقية فعلاً لكل هذا الورق المطبوع؟ مجرد ورق وتمت طباعته بإتقان وجودة، أين القيمة؟
ما الذي يجعل ورقة «الخمسين» تلك.. تساوي الخمسين؟ خمسين ماذا بالضبط؟ ولك أن تتصاعد بالرقم حتى المليار نفسه ضمن ذات السؤال!
في المسلسل الإسقاطات تتوالى، والمشاهد تتصاعد، فنحن أمام قصة «تمرد» ثورية غير مسبوقة، هي ليست ثورة على نظام سياسي، ولا على السلطات الحاكمة مباشرة، بل هي حكاية بسيطة بدأها رجل ذكي ومثقف، ولديه وازع انتقامي شخصي فجمع عصابة من العاديين جداً، بلا أي أجندات، كل منهم يمكن أن يحمل سمات أي شخص فينا، ليضربوا في عمق النظام الرأسمالي (والاشتراكي أيضاً.. فهؤلاء لديهم عملة وذهب كذلك).
إنها ثورة في العقل الباطن على كل تلك التعقيدات التي بنتها وشيدتها «بيوت الورق» المالية في العالم، لنكتشف في النهاية وبحكاية سطو مسلح غاية في الإتقان، أن الورق ليس أكثر من ورق، وفي السطو الثاني نجد أنفسنا أمام الذهب، براق ومتوهج، كحالة تذكير بالقيمة الأساسية قبل كل تلك القصور الورقية الضخمة التي بنينا العالم عليها، وها هي معرضة للانهيار في لحظة مواجهة مع فيروس.
هل يمكن أن نستوعب أن ورق «البنكنوت» حتى لو طبعنا منه ألف تريليون، لن يكفي لرشوة فيروسات متناهية الصغر؟ ربما لو أعدنا حسابات القيمة للأشياء، فإن ورق بحث علمي يبحث في طرق العلاج أكثر قيمة من كل ورق العملة المطبوع بأناقة.
أي عالم بالضبط سنستيقظ عليه حين نخرج من الكهف؟
* كاتب أردني مقيم في بلجيكا