أظهرت الاستحقاقات الانتخابية الإقليمية التي أجريت منذ أيام في فرنسا انتفاضة الأحزاب التقليدية من اليمين واليسار المعتدَلين، التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الاندثار مع الوصول غير المنتظر للرئيس الوسطي «ماكرون» وحزبه إلى سدة الحكم منذ أربع سنوات، حيث انتزع ناخبون من اليمين واليسار على حد سواء.
في سنة 2008، غادر السيد ماكرون عالم الإدارة العليا والتحق بمصرف «روتشيلد»، ليكتشف أسرار البنوك والمالية. وفي سنة 2012، التحق بالرئيس هولاند وعمل مستشاراً اقتصادياً إلى غاية 2014 ليعينه هولاند بعد ذلك وزيراً للاقتصاد محل «أرنو مونتبورغ»، الذي استقال من منصبه. دامت عهدة ماكرون الوزارية سنتين (2014-2016) قبل أن يؤسس حركته «إلى الأمام» ليستقطب بذلك عشرات الآلاف من المساندين، غالبيتهم من الشباب، الذين يرون فيه رجل المرحلة من دون منازع، إلى أن وصل إلى كرسي قصر الإليزيه.
عندما أجريت الانتخابات الرئاسية منذ سنوات، ما كان أحد يتكهن ولو لثانية واحدة أن السيد ماكرون سينعم بفوز رئاسي كبير، ولا أحد إطلاقاً كان يتصور أن القطبيتين السياسيتين التقليديتين واللتين طبعتا تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، وأعني بذلك اليمين واليسار، ستزال في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية.... زلزال سياسي كبير لأن حتى بعض أصوات اليمين واليسار صوتت لهذا الرئيس الشاب، وبمعنى آخر، فإن الفرنسيين في تلك الفترة تغيرت نظرتهم تجاه السياسة وأهلها، وهناك أزمة الحزب والتمثيلية في واحدة من أعرق البلدان الديمقراطية في العالم، ونجح الرئيس الشاب بذكاء في إقناعهم بضرورة التغيير الذي لا يجب أن يصيب فقط القشور وإنما البنية الداخلية للحزب والإيديولوجية والدولة والاقتصاد والمجتمع... 
أما اليوم، فقد تمكنت الأحزاب التقليدية من تعزيز وجودها محلياً في المناطق الفرنسية الاثنتي عشرة. فاليمين وهو مدعوم بتحالفات مع الوسط في بعض المناطق المناطق، احتفظ برئاسة سبعة أقاليم، بحصوله على 38 في المائة من الأصوات على الصعيد الوطني. واعتبر زعيم «الجمهوريون» كريستيان جاكوب أن هذه النتيجة عودة جدية لهذا المعسكر السياسي للتنافس في السباق الرئاسي المقبل. وقال في تصريح له إن حزبه أصبح «القوة الوحيدة للتناوب» على الحكم، كما أكدت هذه الانتخابات احتفاظ اليسار مسنوداً بالخضر بخمس مناطق. 
وإضافة لحزب الرئيس ماكرون، الخاسر الأكبر في هذا الانتخاب، والذي كان يتمنى الحصول على قواعد شعبية في المناطق، فإننا نجد أيضاً حزب اليمين المتشدد الذي مني بخسارة مدوية، حيث خانته توقعاته بحصد نتائج إيجابية، كان بالإمكان أن تساعده على ترسيخ وجوده محلياً في فرنسا، علماً أن ارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت كانت دائماً تصب في مصلحته خلال المواعيد الانتخابية.
هل يعني هذا أن حظوظ الرئيس ماكرون للبقاء في كرسي الإليزيه ستقل في الانتخابات الرئاسية للسنة المقبلة؟ كل شيء ممكن، مادامت الانتخابات الإقليمية الأخيرة توحي بذلك. وسيستغل لا محالة زعماء يمينيون كثر فوزهم في الانتخابات المحلية للتشديد على أن أوراق الانتخابات الرئاسية يمكن خلطها. وقال الجمهوري كزافييه برتران، الوزير السابق والفائز في منطقة أو-دو-فرانس (شمال) والمرشح للانتخابات الرئاسية للسنة المقبلة: «الآن أدرك الجميع أن الانتخابات الرئاسية سباق ثلاثي. لقد أسقط السباق الثنائي». ولكن هناك محللون يرون أنه لا بد من توخي الحذر في تحليل هذه العودة للشرخ التقليدي بين اليسار واليمين، إذ ليس هناك ما يوحي بأن انتخابات الأقاليم والمناطق ستحدث تغييراً في سيناريو المواجهة بين «ماكرون» و«لوبان» الذي تتوقعه كل معاهد استطلاعات الرأي للانتخابات الرئاسية عام 2022. وما يعزز هذا التحليل أن كلا اليسار واليمين يفتقدان إلى زعيم واضح.
لا أظن ذلك، فكل السيناريوهات ممكنة، بما في ذلك العودة إلى الشرخ التقليدي بين اليسار واليمين واختيار رئيس جديد من بين هذين المكونين التقليدين. فالفرنسيون عانوا من ويلات «الكورونا» ومن أزمات اقتصادية واجتماعية متتالية، ونحن نتذكر احتجاجات «أصحاب السترات الصفر»، وسلسلة الإضرابات اللامتناهية التي عرفتها تقريباً كل الدول الأوروبية وبالأخص فرنسا، ناهيك أن هناك جيلاً جديداً لا يؤمن بالسياسة وأهلها، أعمار هؤلاء بين 25 و35 عاماً ويمثلون جيلاً لا ينتخب في فرنسا. هؤلاء يحلمون بعالم أفضل ويرفضون السياسة الراهنة بكل أنواعها. إنه جيل ضد المنظومة القائمة، وهذا الجيل سيؤثر كثيراً في مسار الحياة السياسية المقبلة.