عدد اليوم
اللغة وسيلة تواصل بين طرف وطرف، وفي الوقت ذاته، فهي مادة بحثية وهنا لن تكون تواصلية لأن اللغة تركز على نفسها فيصبح الكلام عن الكلام ذاته، وقصة الأعرابي في مجلس الأخفش في البصرة تشرح الفكرة، حيث دخل أعرابي المسجد للصلاة وسمع الأخفش يلقي درسه على طلابه، وكان الأخفش يلقي درساً في النحو ومصطلحاته، التي لم تك تخفى على طلابه، ولكنها تحولت لألغاز لفظية لدى الأعرابي، الذي لم يفهم ما يقوله هذا الشيخ المتحدث لمستمعين مصغين لقوله من دون اعتراض، وكان وجود الأعرابي على طرف الحلقة مثيراً لاهتمام الأخفش وطلابه وفرحين به بوصفه سيكون مرجعاً لغوياً لهم، غير أن الأعرابي نهض من مجلسه ممتعضاً وأدبر عنهم متجهاً لخارج المسجد، فأرسل الأخفش طلابه ليلحقوا به وليسألوه عن سبب انصرافه عنهم، فرد الأعرابي بالقول «رأيتكم تتكلمون بكلامنا عن كلامنا بكلام ليس من كلامنا»، وهنا نقف على مقولة أعرابية من نوادر الأعراب، حيث تدفق عقل الأعرابي عن وصف لحال النظرية اللغوية التي هي كلام عن الكلام وهي وظيفة تختلف عن وظائف اللغة تبعاً لعلاقة الوظائف مع عناصر الرسالة اللغوية، ولكنها في حال النظرية تنصرف لتعطل كل وظائف اللغة لتجعلها قولاً عن القول ذاته ومن هنا، فهي ليست لغة وإن استخدمت القول اللغوي، وهذا وجه من وجوه الفلسفة التي هي أصلاً كلام عن الكلام وتفكير في التفكير، حيث تنفصل اللغة وتنكفئ على ذاتها وينفصل التفكير وينكفئ على ذاته، وهي لعبة للخاصة لأنها منشط ذهني ارتدادي يجعل المصدر هو الهدف، وهذا يربك النظر العام لوظيفة اللغة ويربك نظام الاصطلاح ونظام التواطؤ فيما بين أطراف المجتمع اللغوي، وينشط الذهن لتعميق هذا المنشط عبر ابتكار منظومة مفاهيمية ومصطلحية تحيل إلى مرجعية تخص الخطاب وتنفصل عن كل ما هو خارجه، ولذا فهي منشط كما وصفه الأعرابي: تتكلمون بكلامنا عن كلامنا بكلام ليس من كلامنا، وهنا تبلغ اللغة أعلى درجات غاياتها حين تكون مادة لنفسها وسبباً حصريا لوجودها.
