توشك الكتابة أن تتهيأ، الفكرة تطل برأسها، لكن رغبة صغيرة في هدأة الليل تشد طرف الانتباه، تماماً كما تشد طفلة مشاكسة ثوب أمها حين هي منهمكة في عمل ما، ألتفت إليها ولا أفهم ماذا تريد، أعود إلى محاولة الكتابة فتعاود الشد، رغبة مبهمة، لحوحة، تشبه حاجة الجسم لشرط الطعام والماء، وحاجة الروح للانفلات من السياج، أو حاجة البصر لمشهد جديد.
لا أتبين الرغبة ولا أعرف كنهها، لكن الفكرة تعود إلى خزائنها، والرغبة المشاكسة تأخذني، لا إلى فضة القمر ترخي بهاءها على الحديقة بل إلى جهاز التسجيل لأضع أحد أشرطة موسيقى «فانجليس»، فينبعث أنين البحارة وإيقاع الرحيل في لجة البحر، ليجسد الآلام وهدير المحيطات وقسوة المجهول في رحلة إسبانيا للاستيلاء على جنة الهنود الحمر! ومصادرة الحق الإلهي والطبيعي للآخرين!.
رغبتي لا ترغب في هذا الاضطراب كله، فأغيّر الشريط، فينبعث عزف «ياسكاز» الياباني سليل الحضارات الشرقية القديمة يسكب لحنه العميق «العتمة والحلم» المفعم بروح الينابيع في انسكابها، فيستيقظ الحنين، ينفض ريشه كطائر فاجأته لذة المطر، اللهب الشفيف يستيقظ في زوايا الروح والقلب لوجوه حميمة وحبيبة تتأود في الذاكرة، فيما تلملم الفجاجة شظاياها وتنسحب.. كل شيء لا نحبه يتراجع.. صفاء النفس والروح وحده يبقى في اكتنازه بعذوبة الإيقاع، يا إلهي! كيف تبدو الحياة بدون موسيقى؟!
هذا السؤال يعني أن أياما وربما زمنا مرَّ كانت الموسيقى تصب في غير مجراي، كنت أضع الشريط في الجهاز وأضغط الزر بحكم العادة والسلوك اليومي.. الرغبة ذاتها عندما تصير عادة تصير شبكة عنكبوت تمتص رحيقنا على مهل، وتتركنا خواءً لا نعيه! تستعبدنا العادات، نسمع الموسيقى ولا نستمع إليها، لا تنصت الذرات والخلايا فينا إلى الترددات والنغم فيها.. المجرى مُقتحم بالضجيج، بالمعيش اليومي وشرطه الفادح، بأشياء لا حصر لها ولا ضرورة، كأن الموسيقى كانت تصب في مجرى عكر!.. «ياسكاز» يقول، حين سُئل عن تأثير الموسيقى العالمية والأميركية عليه، وعلى ألحانه ونبضها الخاص: (نعم أسمع وأتأثر، لكنني في النهاية ياباني، وذاكرتي ضاربة في جذورها هناك..).
«العتمة والحلم» تذكرني بمقطوعة «أوغاريت» ملامح خفية ونغمات بعيدة متمازجة كنقش باهت، وفي الامتزاج الهائم بالإيقاع، بالهارموني، بالوجد الذاهل، بالحنين العارم، بالرغبات القصية التي لا تطال، يستيقظ سؤال كهذا: متى بدأ الإنسان يعزف الموسيقى؟ من أين تعلمها؟ من علّمه سحرها وحكمتها؟.