يتجدد الحديث عن حرب باردة ثانية من وقت إلى آخر، وتُرَّوَج توقعات بشأنها كلما ارتفع منسوب الصراع بين الولايات المتحدة والصين أو روسيا أو كلتيهما. غير أن أياً من هذه التوقعات لم يتحقق بعد، سواء عندما صعَّدت الإدارة الأميركية السابقة المواجهةَ ضد الصين في قضايا التجارة، أو حينما تبنت الإدارة الحالية السياسةَ نفسها تقريباً، وفتحت ملفات أخرى مختلفاً عليها (مثل حقوق الإنسان)، واتجهت في الوقت نفسه إلى التصعيد ضد روسيا. وازداد الاعتقاد في بعض الأوساط بأن العالم يتجه صوبَ حرب باردة ثانية عندما تحركت إدارة جو بايدن لترميم التصدعات التي لحقت بالتحالف الغربي في السنوات الأربع الماضية، بالتزامن مع مؤشرات على ازدياد التقارب بين الصين وروسيا.
غير أن فكرة تجدد الحرب الباردة باتت بحاجة إلى مراجعة في ضوء ما يمكن استخلاصه من أحداث ثلاثة كبيرة توالت خلال الشهر الجاري، وهي قمة الدول السبع الكبرى، وقمة الحلف الأطلسي، والقمة الأميركية الروسية.
لقد انتهت قمتا التجمعين الأساسيين للتحالف الغربي من دون التفاهم على استراتيجية متكاملة أو سياسات محددة ضد أي من الصين أو روسيا. وتبيَّن مجدداً أنه لا يوجد أساس كاف للاتفاق الكامل على مواقف مشتركة في هذا الاتجاه، بسبب الاختلاف بشأن طريقة التعامل مع بكين وموسكو.
ولا يوجد لدى الدول الأوروبية الرئيسة استعداد لمشاركة الولايات المتحدة سياستَها التجاريةَ إزاء الصين. ويبدو الأوروبيون حريصين على استمرار العلاقات التجارية الحالية من دون مشاكل تؤثر في اقتصاداتهم التي تحتاج جهداً كبيراً لكي تتعافى من تداعيات جائحة كورونا.. فالصين أكبر مُصدِّر إلى الاتحاد الأوروبي، وثاني أكبر مُستورد منه. ولا يُقلق التوسع العسكري الصيني معظم دول الاتحاد، مادام محصوراً في شرق آسيا باستثناءات قليلة. كما أن تنامي دور بكين الاقتصادي ليس مُزعجاً للأوروبيين مادام لا يؤثر في مصالحهم. ولهذا لا يُبدون قلقاً من خطة «الحزام والطريق»، بخلاف الولايات المتحدة. ولم تكن مشاركتُهم في إعلان التصور الذي حمله بايدن إلى قمة الدول السبع لمنافسة هذه الخطة عبر دعم البنى التحتية في دول فقيرة، إلا لأنه شديد العمومية ويفتقر إلى آليات عملية وجداول زمنية، ويتطلب مفاوضات تفصيلية بافتراض توفير مقوماته وفي مقدمتها التمويل الضخم اللازم له.
ولم يكن ثمة جديد جوهري في رسائل وجهتها قمةُ الحلف الأطلسي إلى الصين وروسيا. كما تحدث الأمين العام لهذا الحلف صراحةً عن استبعاد نشوب حرب جديدة. ورغم أن قمة بايدن وبوتين لم تُحقِّق اختراقاً في أي من القضايا الخلافية الرئيسة، فإنه لا يمكن إغفال أهمية الاتجاه الذي ظهر خلالها إلى تحبيذ التعاون من أجل تحقيق استقرار استراتيجي، والبيان المشترك الذي صدر عنها بهذا المعنى.. ولهذا كله، يبدو أن شبح الحرب الباردة الثانية بات أبعد مما كان في الفترة القليلة الماضية.
وينقلنا هذا إلى مسألة استخدام مفهوم الحرب الباردة في عالم مختلف. فقد بُلور هذا المفهوم كأداة تحليلية لمواجهة دولية واسعة النطاق بين معسكرين، وليس بين دولتين فقط. ولهذا، فحتى بافتراض حدوث مزيد من التصعيد في العلاقات الأميركية الصينية، وهو محتمل، والعلاقات الأميركية الروسية، وهو أقل احتمالاً، فإنه يتعذر الحديث عن حرب باردة جديدة ما لم ينضم حلفاء واشنطن إليها، ويُبنى تحالف بين بكين وموسكو يضم بعض حلفائهما أيضاً. وإذ يبدو هذا السيناريو خارج نطاق الاحتمالات في أي مدى منظور، يصبح من الضروري التمهُّل قبل الحديث عن حرب باردة ثانية لكي لا نتجاوز الخط الفاصل بين الواقع والخيال السياسي أو الأعمال الدرامية التي كان فيلم «الحرب الباردة» للمخرج البولندي بافل بافليكوفسكي آخِرَها.