دعونا اليوم نقف على الضفة الأخرى، لنفهم رغبة الأميركان والأوروبيين في إعادة توقيع الاتفاق النووي، والتي قد تكون رغبة صينية وروسية أيضاً، ونترك جانباً للحظة، تجاهل الجميع لأمن منطقة الشرق الأوسط التي بدأت إيران بتهديدها منذ عام 1979، وكذلك نترك جانباً ما نظن أنه صراع أميركي عالمي على عدم دعوة كل من العراق والسعودية والإمارات والبحرين وإسرائيل ليكونوا جزءاً من المفاوضات التي تجري حالياً في فيينا، باعتبار أن هذه الأطراف تمثل اليوم القيمة الأساسية لأي علاقة جدلية مع إيران في المستقبل.
الأوروبيون، الذي يشعلون النار حول روسيا والصين اليوم لأسباب سياسية واقتصادية أخرى، يرون أن توقيع الاتفاق النووي بينهم وبين إيران وأميركا قد يساهم في ضبط التهور الإيراني لتخصيب اليورانيوم، وذلك من خلال المراقبة التي تفرضها وكالة الطاقة الذرية، فيخشى الأوروبيون أن ما تلوح به إيران برفع نسبة التخصيب قد يكون حقيقياً، وليس مجرد سلاح تهدد به العالم، وبالنسبة لمن يرى وجهة النظر ويستطيع الغوص والبحث أعمق عن المخاوف الأوروبية الحقيقية، سيجد أن الدول الأوروبية المشاركة في اتفاق «خمسة زائد واحد»، والتي تضغط نحو هذا الاتجاه، كفرنسا وألمانيا وكذلك بريطانيا، التي أصبحت خارج الاتحاد الأوروبي، تنطلق من مخاوفها فقط، لأنهم لم يجدوا بديلاً مقترحاً لحماية شعوبهم أولاً والقول بأنهم يريدون حماية العالم لاحقاً من النتيجة الحتمية التي قد تذهب إليها إيران، لو لم يتم «ترقيع» الاتفاق النووي!
ما يمكن إيجاده خلال البحث المعمق أن الولايات المتحدة الأميركية أيضاً ليس لديها بديل سوى الحرب الشاملة، وهذا غير منصف بالمرة، فليس هناك أحد يريد الحرب التي تُصنع أولاً في أذهان الرجال، ولكن تجنبها بالخضوع للسياسة الإيرانية الصارمة والخبيثة سيعني بلا شك أن العالم سيكون أفضل من دون حرب ولا سلم مع إيران، فالسلم بهذه الطريقة سيفتح أبواب جهنم على المنطقة، في العراق وسوريا ولبنان واليمن وخلايا إيرانية نائمة في البحرين والسعودية وسيشعل النار في التصعيد الإيراني – الإسرائيلي لسنوات طويلة، ولا أحد يعلم أين سيذهب كل ذلك بدمية السلم الذي تم حشوها بالبارود، كقنبلة موقوتة.
السياسة الإيرانية الصارمة تجاه الاتفاق النووي هي الصبر الإستراتيجي مع إطلاق التصريحات اليومية المربكة التي تشدد أن إيران مستعدة لعودة الولايات المتحدة الأميركية إلى «الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني»، والرهان الأكبر أن الإدارة الأميركية وجميع الدول المنخرطة في مجموعة (خمسة زائد واحد)، لن تجد الوقت لتحليل السياسة الإيرانية بقدر الاهتمام بالرد على التصريحات الإيرانية الكثيرة مع المحافظة على إنقاذ المحادثات بأي ثمن. ولو أن الرئيس الأميركي جو بايدن قد اطلع فقط على تصريحات الخارجية الإيرانية في يوم 25 يونيو للعام 2021 وتأملها لدقائق معدودات، لفهم أنه يتم إجباره قسراً على التشبث في العودة للاتفاق وأنه لا يذهب إلى هناك بسبب استراتيجيته الدبلوماسية فقط.
سندعو لتأمل التصريحات الإيرانية في يوم واحد: «ما زلنا نعتقد أن الاتفاق في فيينا ممكن شريطة أن تتخلى واشنطن عن إرث ترامب الفاشل»، «إيران لن تجري في فيينا مباحثات لا نهاية لها»، «موقف إيران لم يتغير منذ انطلاق مباحثات فيينا وهو رفع تام للعقوبات»، «استمرارية الاتفاق النووي ممكنة في حال اتخاذ واشنطن قرار تنفيذ التزاماتها»، «طهران مستعدة للتراجع عن خطواتها في تقليص التعهدات شرط تنفيذ واشنطن لالتزاماتها»، «إيران أبقت الاتفاق حياً رغم الانسحاب الأميركي وعدم التزام الأوروبيين»، «طهران لم تخرج من الاتفاق لتعود إليه، بل على واشنطن العودة للاتفاق ورفع عقوباتها»، «وسائل إعلام: طهران تقول إنه يتعين على واشنطن لا إيران تحديد ما إذا كانت ترغب بالعودة للاتفاق»، «طهران ستتراجع عن خطواتها النووية بعد رفع العقوبات الأميركية والتحقق من ذلك»، أليس هذا دهاء منقطع النظير؟
ليس هناك حل فوري لما يجري في فيينا، لكن هناك حل عملي قابل للتنفيذ، أن يتم إلغاء محادثات فيينا كلياً، وأن ينسى العالم الاتفاق النووي للعام 2015 أيضاً، وأن يتم اختيار عاصمة خليجية تستقبل مفاوضات نهائية مباشرة، تحضرها أميركا وروسيا والصين وألمانيا وفرنسا والسعودية والإمارات ومصر والعراق والأردن وإسرائيل، وأن تجلس إيران على تلك الطاولة، وتتعهد أمام المجتمع الدولي بأنها ستصبح دولة وجارة مسالمة قابلة للتعايش السلمي مع جيرانها ومع العالم أجمع.

*لواء ركن طيار متقاعد