منذ أن وعيت الحياة، وبدأت أشعر بالموجودات، وأتلمس الأشياء ومعانيها، وروائح الأمكنة وعطر ساكنيها، لا تغيب عني تلك الدُّور الطينية، وأبوابها ونوافذها الخشبية، والدروازة الكبيرة التي تزين بعض مداخلها، ولا يغيب عن ذاكرتي جيران الأمس الجميل، كانت تلك البيوت تستيقظ على أذان الفجر بصوت سالمين الآتي من مسجد «الكندي»، يستيقظ الصباح بعافيته، مسرباً لك دقات منحاز جارتنا جدة الجميع «عوشة بنت عبدالله»، ورائحة قهوتها المقندة التي تثور على مهلها على جمر «الكوار أو الصريدان»، تسابيح العائدين من صلاة الفجر، والفطور شبه الجماعي والمبكر قليلاً تفادياً لغضب جارنا «خميس بن جمعة» الذي يبدأ صباحه بجملة تكاد تتكرر: «ها.. هيّاكن انكفضنّ.. وراءنا سرحة للسوق»!
في ذاك المنزل المجاور لبيتنا، والملاصق له دِفْءٌ، ليس بيننا غير سكة صغيرة لا تتيح إلا لمرور شخصين أو دابة وراكبها أو «الحوّاي» على حمارته، كان هناك شابٌ أذكره في صغري، يعيش مع أمه وعمه، هو «ثاني بن حارب» وزوجته «غبيشة بنت عبيد» وأولادهما، كنّا أهليّة، وأكثر من الجيران، كان «ثاني بن حارب» متعلماً، وربما جرب أعمالاً مختلفة قبل أن يفتح دكانه في مكان قريب من مسجد «سلامة بنت بطي» الآن، كانت دكاكين قليلة حينها، وطينية، وربما مسقوفة بالدعون، تبيع المواد الغذائية وما يمكن أن يصلها من أبوظبي ودبي من احتياجات الأهالي، كنت أشاهد «ثاني بن حارب» قابعاً في ذلك الدكان، ويسجل في دفاتره المبيعات، وحسابات الدين على الناس، يذهب إليه صباحاً، ويعاود الرجوع له العصر حتى قبل مغيب الشمس، بقيت تلك الصورة الساكنة قاع الذاكرة لتفاصيل اليوم حينما كنت في العين قبل مغادرتها إلى أبوظبي عام 1969، وقبل تفرق الجيران، وننتقل نحن سوية للسكن في المعترض، كنّا في المعترض الجنوبي، وجيراننا سكنوا المعترض الشمالي، يفصلنا شارع بدأ يأخذ شكله الجديد، ليكون شارعاً رئيساً ثانياً لمدخل مركز المدينة، غير أنه لم يقدر أن يفصل تلك العلاقة القائمة بين الأهل، وحدها تعقيدات الحياة، وغياب الأولين باعدا بين الأجيال شيئاً قليلاً، لكن المحبة المتجذرة قلما ينفرط عقدها.
رأيت جارنا «ثاني بن حارب» في أطوار العمر المختلفة، وإن تغير بعض الشيء عن الصورة الطفولية التي في الرأس، غير أنه لم تتغير دواخله، ونفسيته، وتلك الطيبة الساكنة فيه، كنت كلما رأيته، أتذكر جيران الأمس الجميل، جدتنا «عوشة بنت عبدالله، وخميس بن جمعة» وشجرة «العويد» وتلك الدور الطينية الدافئة بأهلها وطيبتهم المتناهية.
بالأمس غادرنا ذلك الجار الخلوق، والحيي «ثاني بن حارب»، تاركاً كثيراً من لطف خلقه العالي في نفوس من عرفه وجاوره أو تعامل معه، وتاركاً رفيقة حياته «بنت عبيد» لوحدتها، بعد حياة استمرت ما يزيد على الخمسين عاماً، مودعاً العين مدينته التي لم يعرف غيرها، والتي تبكيه كأحد أبنائها المفارقين، والراقدين تحت ثراها، وظل أشجارها.. لك الرحمة والقبول الحسن، والدار الأفضل، وتستحق أغلى دمع «العين» وأغزره.