لم يكن يومه، ففي العمر بقيّة، ولكن للموت كلمة أخرى، فقد كان الراحل عشبة الأزقة النديّة، الرضيّة، الرخيّة، كان في وجدان القرية المعقوفة على البحر، جدول عفوية منسابة من سجية الناس الذين وقفوا عند ناصية، وأذنوا في الأنام، صائحين بأن الحياة ليست أكثر من رحلة، نحن الذين نتفيأ تحت أشجارها حتى يغادر الظل، ثم نبادر في رحلة أخرى ربما لا تكون الأخيرة، ولكنها رحلة أكثر عمقاً مما نحن فيه.
غادر يوسف مرهون، ترجل، والجواد فكرة تطوف في الديار المنعمة بذاكرة لا ينضب معينها، ولا يجف جدولها، وها نحن الآن نفتح دفتر الأيام، ونقلّب الصفحات، ونقرأ عن رجل في كدّه وتعبه لم يكسب سوى حبّ الذين أدهشتهم ابتسامته، والضحكة المجلجلة بين أطراف الديار ومضارب، وجدران، لمّا سمعت عن رحيله تداعت، وناحت، وغرفت من محجر العين دموعاً وصاحت أيها النبيل، لم تسمعك الجهات وأنت في عزلتك تستعيد طفولة، لم تكن أهون حالاً مما بعدها، كنت سيدي في البيت العتيق، في المكان المخصّب بآهات المرض، وأشياء أخرى، كنت في وعي الحياة، إنساناً يجدل خصلات أحلامه من صور قد لا تبدو نقية، ولكنها ليست شائهة، لأنك في الحياة وردة أعطت الحبّ من دون شروط، وتفتحت بتلاتها في صباح معيريض، واشتقت، وتقت لموئل يجعلك في العالمين، غصناً من أغصان الشجرة الواحدة، ولكن.. جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، ولكنك لم تنحني للريح صرت في القناعة فيلسوفاً حقيقياً، وصرت في العمر سقراط، يقرأ سنوات الحياة من دون كتاب، ويمشي في دنيا الله بخطوات ملأى بالقناعة، فكانت القناعة هي كنزك، وهي ذخرك، وهي فجرك، وضياؤك، وصباحك، ومساؤك، وغدك، ووعدك، وعهدك، ودفؤك، وسماؤك، وأرضك، لذا لم تكن تجزع ولا تفزع، كنت أيقونة حياة لا تشبه إلا نفسك، كنت نغمة «الفريج»، كنت نشيد القرية، كنت أغنية ثرية بموسيقى الحب، كنت العاطفة المجللة بالنقاء، كنت سيدي الفراشة التي تلّون حياة القربى بالفرح، كنت بلا هم، وكان همك هو أن تكون بلا أمنية أبعد من رمش العين.
رحلت سيدي، ومعك تتوارى أجنحة، وعناقيد، وسحابات، وأسماء، ووجوه، وصور، ومشاهد، وذاكرة أخف من ريشة طائر، مغسولة بالثلج والبرد.
رحم الله يوسف مرهون وأسكنه فسيح جناته، وألهم كل محبّيه الصبر والسلوان.