قبل عام تقريباً توقفت كثيراً عند خبر قرأته عن الفتاة «هبة إسكندراني» التي بدأت حياتها بهوية لاجئة فلسطينية ابنة لاجيء فلسطيني، وكبرت كمقيمة وافدة وتلك هوية بحد ذاتها، وكانت دوما تسافر بوثيقة سفر ممنوحة للاجئين صادرة عن السلطات اللبنانية، وهذه هوية فرعية أخرى. وبينما هي في هويتها الأكاديمية كمحاضرة وزائرة في جامعة برمنجهام، بدأت رحلة البحث عن جذورها التاريخية عبر علم الوراثة، الذي لا يكذب، ليتبين أن اللاجئة الفلسطينية التي لا تحمل حق حمل جواز سفر، هي من جذور عائلة سفرديم يهودية تم تهجيرها من إسبانيا بعد عام 1492م. وعلى الأغلب فإن أسلاف هبة من المهجرين اليهود حينها قد لجؤوا إلى شمال أفريقيا والمغرب العربي، وربما انتقلوا في مراحل لاحقة إلى الإسكندرية، يهوداً أم مسلمين لا أحد يمكن أن يجزم، ثم إلى بر الشام، وقد حملوا معهم لقبهم «إسكندراني» فصار كنيةَ العائلة وهويتها، وهي التي تم طباعتها على وثيقة اللجوء وكل بطاقات التعريف لهبة، التي استعادت جذورها كيهودية من إسبانيا فمنحتها إسبانيا الجنسية حسب القانون.
في المحصلة، كانت هبة هي ذاتها هبة، في كل رحلتها عبر كل تلك الهويات، وكان الثابت الوحيد فيها هويتها كإنسان، يبحث عن أمانه ضمن منظومة مجتمعات بشرية مختلفة ومتفاوتة، فلم ينصفها إلا العلم، والعلم وحده.
شخصياً، أفكر منذ فترة بخوض تجربة الفحص الوراثي لمعرفة كم الهويات المختلط الذي ورثته على صيغة جينات هي أساس تكويني وكياني، وتصبح الفكرة مغرية أكثر وأنا أتأمل ابنتي «بترا»، وهي حاصل (جمع وطرح وضرب وقسمة) أب مقسوم نصفين بين أصول حورانية شمال الأردن وأصول قوقازية شمال الكوكب، وأم أيضاً منقسمة بين أب من أصول «تركية» وأم مجرية تجاور الدانوب الأزرق.
ربما فكرة الفحص الوراثي هي أكثر هدية تحمل قيمة حقيقية أتركها لابنتي لتعرف أن هويتها الإنسانية، هي الثابت الوحيد في كل موجات الهويات العابرة للجينات أو الهويات التي نلجأ إليها لننتمي حيث نحب لا حيث نضطر مرغمين.
لو تأملنا التاريخ سنجد أنه لم يخطر ببال موظف الجمارك النمساوي في الدولة البروسية (المجر والنمسا) أن ابنه «أدولف» سيكون مجرم إبادة عصبويا للعرق الآري ويقود ألمانيا على أساس النقاء العرقي للألمان!!
ولا ينتبه أحد مثلاً أن نابليون بونابرت الذي غزا العالم ليقيم إمبراطوريته الفرنسية كان من أصول إيطالية، وهذا لم يمنعه من احتلال إيطاليا ومحاربتها وسفك الدم فيها ليقيم أمجاده الشخصية.
لقد كان بشير ابن بيير الجميل عدوا شرساً للفلسطينيين اللاجئين إلى لبنان، وكذلك اعتبره الفلسطينيون ولا زالوا عدواً لدوداً للقضية.
المسيحي الماروني الشيخ بيار الجميل الذي أسس «حزب الكتائب» واستوحاه من شبيبة هتلر النازية، كان متوافقاً في تلك الفكرة والمحبة لتنظيمات هتلر مع صديقه الفلسطيني الحاج «أمين الحسيني» الشيخ الإسلامي والمفتي زعيم الثورة الفلسطينية الأولى، حتى أن الشيخ الحسيني أقام ضيفاً لمدة عامين عند الماروني بيار، وأحب الماروني ذلك الشيخ الفلسطيني حتى أنه سمى ابنه البكر على اسمه، فكان رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق أمين الجميل.
فتخيل حجم تناقضاتنا.
* كاتب أردني مقيم في بلجيكا