منذ السنوات الأخيرة، بدأت الدول والمنظمات والمؤسسات وكذلك شعوب العالم، تلاحظ صعود نجم دولة حديثة، لم يمض على تأسيسها أكثر من خمسين عاماً، فوجدوها تتصدر مؤشرات التنافسية العالمية وتغزو الفضاء وتصبح من أفضل دول العالم في تقديم المساعدات الإنسانية ومكافحة فيروس الألفية «كورونا»، فيهرعون إلى خريطة العالم ليجدوا تلك المساحة البيضاء التي تشبه سفينة عملاقة ترسو على الخليج العربي تتوهج بقدرات سياسية واقتصادية ودبلوماسية ملفتة فتحجز لها مقعداً في مجلس الأمن، تصوّت لها معظم دول العالم، مؤمنين برؤية الإمارات الاستراتيجية المتينة، التي نقشتها بصبر وثبات وحكمة، طيلة خمسين عاماً.
هذه حقيقة، وليست مجرد تعبير مجازي عن الشعور بالفخر، إنما يهاتفني عدد كبير من الزملاء السابقين في المجالات السياسية والعسكرية والدبلوماسية، ويبرز التساؤل عن الإمارات يومياً: كيف حدث ذلك، وكيف استطاعت دولة الإمارات أن ترتقي بكافة مجالاتها إلى القمة العالمية وتجعل دولاً كبرى وعظمى عديدة خلفها في مجالات عدة حيوية؟ وما هو اللغز المحير الذي يجب معرفته لفهم وتحليل هذا الارتقاء الملفت، المتزن والثابت، وهل المسألة كلها تتعلق بخطة ذكية واستراتيجية تتولاها القيادة الإماراتية أم أن هناك أشياء أخرى أيضاً لا نعرفها؟ ويستمر التساؤل والحوار حول «سر دولة الإمارات».
يقول «أندرياس ويمر»، العالم السياسي في جامعة كولومبيا، إن نجاح بناء أمة هو بناء دولة قادرة على توفير المنافع العامة بالتساوي في جميع أنحاء الأقاليم، وظهور وسيلة اتصال مشتركة على المدى الطويل، وكذلك تنمية البنية التحتية الأساسية لتعزيز التآلف الاجتماعي والنمو الاقتصادي، وفي المقابل يشدد المؤرخ الأميركي «تشارلز تيلي» أن بناء الدولة لا يتم إلا بالولاء والاستمرارية ووجود مؤسسات دائمة. أما معهد الأمم المتحدة لبحوث التنمية الاجتماعية، فيرى بأن قدرات الدولة الأساسية هي المساعدة في الحصول على التكنولوجيا الجديدة، وتعبئة وتوجيه الموارد إلى القطاعات الإنتاجية، فرض المعايير واللوائح، إنشاء المواثيق الاجتماعية وتمويل وايصال وتنظيم الخدمات والبرامج الاجتماعية، وبالمقارنة مع بناء الأمة والدولة الإماراتية وتطورها وتقدمها المذهل، يبدو أن «السر الحقيقي» كان لدى الآباء المؤسسين بقيادة المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه.
في كتابه «الرمال العربية» ينظر الرحالة البريطاني «ولفرد ثيسيجر» بإعجاب شديد إلى ذكاء وحكمة الشيخ زايد في إدارة الحكم فيصفه بأنه «رب أسرة كبيرة»، ومع أن إدارة الأسر الصغيرة يبدو أحيانا مرهقاً ومتعباً إلا أن الشيخ زايد، رحمه الله، حسب ما نعرفه جميعاً، وحسب وصف «ثيسيجر» كان دائماً «يجلس دائماً للإنصات لمشاكل الناس ويحلها»، بل ولاحظ الرحالة الشهير أنه ومهما بلغ حجم المشكلة، فإن «المتخاصمين يخرجون من مجلس الشيخ زايد بهدوء، وكلهم رضى عن أحكامه التي تتميز بالذكاء والحكمة والعدل».
لا يمكن القول، إن فكرة دولة الإمارات قد تبلورت لأسباب سياسية أو اقتصادية خلال عام 1971 فقط، بل إن الدولة كانت تشغل الشيخ زايد رحمه الله منذ اليوم الأول الذي أصبح فيه حاكماً لإمارة أبوظبي في أغسطس 1966، ولا شك بأنها أشغلته أيضاً أثناء عمله ممثلاً لحاكم أبوظبي في أواسط أربعينيات القرن الماضي، وكذلك خلال طفولته حين كان والده الشيخ سلطان، طيب الله ثراه، حاكماً لإمارة أبوظبي في الفترة 1922-1926، أي أن المسألة لم تكن عفوية، بل كان بناء نموذج الحكم لإمارة أبوظبي بوضع الخطط لمواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وتطوير الإمارة في مجالات الصحة والتعليم والإسكان وتوظيف كافة الإمكانيات لبناء وتطوير البنى التحتية هو مشروع قد بعث على تأمل وتحقيق بناء دولة الإمارات، والذي واكب أيضاً خلال تلك الفترة بروز الفكر المتقد والنتائج المبهرة لحكمة وذكاء المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، في منهجية حكم إمارة دبي، فلم تكن الدولة مجرد فكرة، بل كانت شيئاً عظيماً يشغل الآباء المؤسسين لا يستند على الظهور والبقاء، بل على الاستمرارية والتطور الدائمين وبلوغ القمم الشاهقة.
نموذج الدولة الإماراتية في خمسين عاماً: النشأة والتطور والتقدم، الفكر والرؤية والخطط الاستراتيجية الشاملة، القيادة وأسس الحكم الرشيد، السياسة والاقتصاد والقوى المدنية والعسكرية، الدبلوماسية الناعمة والقوية والعلاقات الدولية، التحالفات الإقليمية والدولية، كلها ستصبح قريباً مادة علمية تُدرّس ويُستفاد منها على نطاقات واسعة، لتغيير المفاهيم والاتجاهات القديمة، بل وسيصبح السر الإماراتي العظيم، منهجاً تربوياً للقيادات والشعوب، يتعلمون منه كيف يمكن إرساء الأمن والاستقرار الداخلي وبلوغ القمة عالميا ونشر القيم الإنسانية النبيلة في وقت واحد.

 *لواء ركن طيار متقاعد