ارتبطت بعلاقات صداقة ومعرفة بمعظم شعراء العراق الكبار، خاصة حين تناهت بهم السبل والمدن، وغابوا في منافيهم الاختيارية - الإجبارية، كانوا يمثلون حال العراق، وما آلت إليه الأمور فيه، وما أصابه من تقلبات ونكبات، كان كل واحد منهم مثل عزيز قوم ذل، فلا العراق يستحق، ولا هم يستحقون، كانت لقاءاتي بهم خارج ذلك السواد، خارج بغداد، خارج بصرة الخير أُم البساتين، عرفت الجواهري في دمشق والشارقة وأبوظبي، عرفت البياتي في الأردن وبيروت، وعرفت سعدي يوسف في فرنسا والقاهرة ودبي، وعرفت نازك الملائكة بالمراسلات ووسطاء من الأصدقاء حين كانت بحاجة إلى دواء، ولا أحد أو وطن يسأل، عرفت الصكار في مدن كثيرة باريس وأبوظبي، وعرفت غيرهم، كثيرون كانوا من شعراء وأدباء وفنانين، ولكم كان يحزنني حين أسمع بين الحين والحين تساقطهم في منافيهم، بعيداً عن وطنهم الذين يعرفون، قريبين من المدن التي احتضنت تعبهم، وحنّت عليهم كأناس لا يستحقون إلا الشيء الجميل، مثلهم مثل وطنهم أرض الخير الوفير، والدماء المُراقة التي لا تنتهي، والعذابات السود التي تزداد وتتشكل مع العصور وطغاة التاريخ.
في أسبوع واحد ضمت لندن رفاة الشاعر سعدي يوسف، وجاء نبأ من أميركا عن وفاة الشاعرة «لميعة عباس عمارة»، تلك الشاعرة الجامحة والمتوقدة والمتوثبة عن عمر 93 عاماً، التي غادرت العراق في نهاية السبعينيات، واستقرت في ولاية كاليفورنيا هرباً نحو الحرية والتنفس بعيداً عن هيمنة الحزب الواحد، وقمع الرئيس الأوحد، بعيداً عن التعريفات الطائفية البغيضة، وهي التي تنتمي لفئة أصلية، ولكنها أقلية من الصابئة المندنائية، لكن وجهتها كانت الشعر والحب والحرية والكرامة للوطن، وقد جمعتني بها لقاءات في الإمارات، وأتذكر مرة كانت في أبوظبي، وكان في الوقت نفسه الخطاط والشاعر والرسام «محمد سعيد الصكار» وكان يومها لديّ سيارة رياضية أميركية «كامارو» حمراء، ومررت بغية اصطحابهما معي في جولة في أبوظبي وغداء مختلف، وحين لمحا تلك السيارة، اعتذرا عن عدم الركوب معي، معتقدين أنه ما زال فيّ نزق الشباب، وطيش السرعة، وهما في أعمارهما التي تداخلت فيها «الخمسين بالستين»، فقلت لهما: ما أتيت بهذه السيارة إلا لكي أُرجعكما سنوات للوراء الجميل، فتضاحكا، فقالت لميعة: غلبنا الشاب! لكنهما ما إن ركبا فيها، وذرعت بهما الشوارع، حتى استرجعا شبابهما في بغداد والأيام الحلوة الجميلة التي تشاطرا أجزاء منها، متذكرين حكايات توجع عن الشاعر «السياب» الذي ارتبط بعلاقة حبٍّ روحية وشعرية مع لميعة، يومها ضحكا كثيراً، والعراقيون إذا ما ضحكوا، فلابد وأن يرجعوا لذلك النواح الحسيني، ولابد من بكاء، ولابدّ من لطم تاريخي، خاصة وكان الشجن أغاني عراقية جميلة ذات النبرة الحزينة يبثها ذلك الجهاز السمعي في تلك السيارة الحمراء التي أفتقدها اليوم كثيراً.. مثلما أفتقد شعراء العراق الكبار الذين عرفتهم، وتساقطوا واحداً تلو آخر في المنافي الإجبارية - الاختيارية الباردة.