حملنا وزر الصحراء طويلاً، أتعبتنا النعوت قديماً، وكأننا نحمل الكثبان والسيوح والسباخ، حتى ليكاد المرء يخال نفسه عوداً جافاً يسكن رأس رملة في كبد الصحراء، أو في المناطق ذات الجرف الحجري في هذا المدى الصحراوي. كأن ابن الصحراء يحمل قربة على ظهره وكتفه، عاجزاً عن فك الخط أو قراءة الأحرف الأبجدية! أو هكذا يتخيلوننا عندما ندخل بعض المدن البعيدة. كأنه الجمل الهادر والحصان الجامح والأسد المتجوّل في الحقول الخضراء! كانت الصحراء وأبناؤها دائماً ما ينعتهم من لا يعرفون الصحاري وقلبها الكبير بأنهم وأنها، أي الصحراء، لم تروّض بعد، وأنها موطن الغبار والجفاف والهبوب والرياح، وأنها في نقطة بعيدة عن المدن الحضرية وفقيرة في كل شيء! بعضهم وصفها بالجمود أو الصلابة، وأنها لم ولن تكون ليّنة وعاطفية كما هي مدن الزهور والأنهار والبساتين والجبال الخضراء، وحتى الجبال على أطراف الصحاري نعتت، هي أيضاً، بكونها ملحاً ومشهداً كالحاً، ليست زاهية وجميلة مثل جبال المدن البعيدة الخضراء!
قاسية بعض أحكام أولئك الذين لم يزوروا الصحراء أصلاً ولم يعرفوا ناسها، كانت تركة القديم من التاريخ وماضي الفقر والجدب تلاحق ابن الصحراء أينما ذهب، تتوارى أو تختفي بعض الوقت مداهنة أو مجاملة لسعي بعضهم لتجاوز زمنهم القديم، ولكنها قد تظهر أيضاً عند الغضب! كانت كل تلك التحديات وتجربة أن تصنع الحياة والتاريخ المختلف عن إرث الصحاري وعوزها وماضيها الفقير وظهور عزيمة التحدي، وخوض تجارب أن تجعل هذه الصحاري مدناً مختلفة وأرضاً مختلفة وأيضاً مشاريع جديدة مبهرة، كان هذا التحدي الأول، أن تهزم الأفكار المحبطة وأن تصنع حياة جديدة وتهزم العواصف والرياح والصور النمطية الآتية من محيط ومدن جمدت أصلاً عند نقاط محددة وبات سيرها مثل مَن يحبو أو يبارح في مكانه، بينما أقلعت الصحراء، في المقابل، وأخذت بناصية هبوب التطوير في كل شيء من الزراعة والإعمار الصحراوي، إلى الصناعة وبناء المدن الجديدة والحديثة، وصنع حياة جديدة وواقع جديد مزدهر، فيما ظلت تلك المدن البعيدة على حالها وسيرها ببطء شديد.
ظل بعضهم يعتقد أنها مدن صحراوية وإنسانها صحراوي ما زال يستنشق غبار الرياح وينضح عرقاً تحت الرطوبة العالية ويحترق تحت حرارة الصحراء الحارقة، وبعد أربعين عاماً من العمل وصمت الواثق من أن ما يبذره في هذه الصحراء الواسعة سيعطي ثماره وتينع أشجاره وتكثر خيراته وتعمر داره ويكبر مقداره في أرضه وخارجها، هذا الذي صبر على قسوة الصحراء وجدبها قليل الكلام كثير العمل في المدن والقرى والسفوح والجبال، المعمّر بصمت والناسج لوطنه حياة جديدة تعوض الزمن الماضي، وتصنع أجمل المدن وأكثرها إشراقة ومحبة للجميع، بعد أربعين عاماً ها هي مدن الصحاري تتجاوز مدناً تاريخية أخرى، لتصبح مدن الجمال التي تشرق عليها الشمس بالفرح والبهجة والأنوار والأضواء الزاهية والأمن والأمان، بينما هناك في تلك المدن القديمة البعيدة يُصنع الخراب والدمار والحروب والقتل المجاني. هكذا تزهو مدن الصحاري مشرقة مزدهرة، وتتوارى مدن الحقول والأنهار.