رحلةٌ طويلةٌ ومتشعبةٌ قطعتها جماعات الإسلام السياسي منذ نشأة جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر أواخر العشرينيات، وصولاً إلى اليوم وعالم «السوشال ميديا» والتقنيات الحديثة و«منصات» الإعلام الجديد، وهي رحلة تظهر للمتابع والباحث المدقق عن قدرة هذه الجماعات على إعادة الشكل وقدرتها على التأقلم وارتكاب المتناقضات.
القصة قديمة في رفض هذه الجماعات لأي جديدٍ من الأفكار والمخترعات بلغة دينية تحريمية رافضة، ثم لا تلبث بعد مدةٍ من الزمن أن تتدرج في التنازل عن التحريم والاتجاه للإباحة ومن ثم التكالب على هذه الأفكار والمخترعات، حين تصبح منفعتها للجماعة أكبر من منفعة تحريمها والسعي لفرض السلطة على المجتمعات.
الأمثلة أكثر من أن تحصى في كل بلدٍ عربيٍ تقريباً، الموقف من القوانين والاقتصاد والتعليم مجرد أمثلة ومثلها الموقف من الراديو والتلفزيون والبث الفضائي من المخترعات الحديثة، ومن بعد التحريم والرفض جاءت مرحلة الإباحة ثم التكالب عليها جميعاً، فمن تكفير الدساتير والقوانين إلى «أسلمة القوانين» و«تقنين الشريعة»، ومن تحريم الاقتصاد إلى «الاقتصاد الإسلامي». ومن رفض التعليم الحديث إلى السعي المكثف والتركيز العميق على السيطرة على كامل العملية التربوية صفيةً كانت أم غير صفيةٍ.
الموقف من المخترعات الإعلامية الجديدة فيه تباين اختلف من دولة إلى أخرى، فانخراط «الإخوان المسلمين» في الصحافة قديمٌ، فكانت البداية بالمشاركة في الجرائد والمجلات ومن ثم إلى تأسيس جرائد ومجلات تابعة للجماعة ومثيلاتها ثم بعد تحريم «البث المباشر» إلى خلق عشرات القنوات الفضائية، إنْ لم يكن المئات ثم كان اقتحام الإنترنت سريعاً لدى هذه الجماعات، فانتشرت المواقع الإلكترونية والمنتديات الإنترنتية انتشار النار في الهشيم.
هذه جماعاتٌ مؤدلجةٌ، أتباعها ملتزمون أيديولوجياً ومطيعون تنظيمياً، وما دامت الأيديولوجيا راسخةً، فلا بد من اقتحام كل منتج يخاطب العامة بسرعةٍ وتنظيمٍ مع الاستفادة من خبرات الحشد والتهييج، وقد اتضح هذا في مواقع التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر» ونحوهما، وبالذات إبان ما كان يعرف بـ«الربيع العربي» حيث خرجت «الخلايا الإلكترونية» و«هاشتاقات» الإسلام السياسي. اليوم ثمة موضة جديدة تمثل تطوراً مهماً في هذا السياق وهي موضة «منصات» الإعلام الجديد، و«البودكاست» والنشر الفردي والمؤسسي بلغة العصر ومخترعاته ومنتجاته، والحرص على الوصول لأكبر عدد من الناس بغض النظر عن «الموضوع» أو «الفكرة»، فالأهم هو الوصول للناس وضمان الانتشار، أما نشر الأيديولوجيا وتمرير «المفاهيم»، وتوظيفها جميعاً في خدمة هذه الجماعات فهي مرحلة لاحقة.
شابٌ ملتحٍ بلحيةٍ مهذبةٍ أو حليق، يلبس لباساً غربياً، ويتحدث بمفرداتٍ نصفها بالإنجليزي ينخرط في هذه المنتجات ويجمع المتابعين ويحشد المعلنين، ويمرّر الرسائل التي يريد تحت هذه الأغطية الحديثة البرّاقة بعدما يشعر بشيء من «التمكين» و«القوة».
خطير هو انتقال تنظيمات الإسلام السياسي من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، فهذا يمنحها مزيد قوةٍ وانتشارٍ وتأثيرٍ، وتطوير مهارات التخفي والتمويه وركوب موجات «الترندات» العالمية هي مسألة تحتاج للرصد والتدقيق البحث والفرز العلمي، لأن الخبير وحده يستطيع اكتشافها بينما تتلقاها المجتمعات كجزء من ظاهرة عالميةٍ سائدةٍ.
هذه الطريقة الجديدة مثّلت كنزاً بالنسبة لجماعات الإسلام السياسي، بل وأكثر من هذا لتنظيمات العنف كتنظيم «القاعدة» و«داعش»، وبدأ بعض رموز الإرهاب يقدمون أنفسهم للناس عبر هذه «المنصات» بطريقة ناعمةٍ وحديثةٍ ومفرداتٍ بعيدةٍ عن «التوحش» و«الدموية» وأشكالٍ قريبةٍ من «المدنية» و«التسامح» بحثاً عن الانتشار والتأثير.
أخيراً، فهذه الطريقة «الحديثة» أثبتت نجاحاً في كسر الحصار عن هذه الجماعات، وقدرة أكبر للتغلغل في مؤسسات الدول والتأثير على صانع القرار، وقديماً كتب الشاعر العربي يقول:
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها/ عن التقلب في أنيابها العطب