باذخ هو المشهد السياسي حينما يصل لدرجة أن نشاهد بعيوننا تسليم الولايات المتحدة بعقيدتها الليبرالية وبسطوتها السياسية والعسكرية لحركة راديكالية متشددة دينياً، يحدث هذا المشهد بتسليم الأميركيين لحركة «طالبان» السلطة السياسية في أفغانستان لتأكيد التحولات الكبيرة في العالم، فالولايات المتحدة التي كانت تقدم نفسها كحامي للحريات والديمقراطية، لم تستطع هزيمة الفكرة الأيديولوجية عند «طالبان» ووصلت لقناعة كاملة بالتعامل مع واقع الحال الأفغانية بكل تناقضاتها.

لعبت أفغانستان دور نقطة الاستنزاف السياسي والعسكري للاتحاد السوفييتي سابقاً وبعد أن سقط جدار برلين تحولت تلك البلاد المخفية عن الأنظار لمصنع يفرخ المقاتلين الأشداء الذين وجدوا في أزمات الصومال والبلقان والعراق والسودان مواطن للقتال، ووجدت أنظمة سياسية في اليمن وليبيا وغيرها في المقاتلين القادمين من بلاد الأفغان، ما يمكن استثماره ضمن سياسات المناكفات العربية للابتزاز السياسي الذي اعتادت عليه تلك الأنظمة البائدة.
التحول كان بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، فلقد شنت الولايات المتحدة حرباً واسعة للانتقام من تنظيم «القاعدة»، الذي كان قد تبنى المسؤولية عن تلك الهجمات الإرهابية. استمرت أفغانستان في وظيفتها التاريخية بأنها بلد ينتج المقاتلين، ويستطيع استنزاف الدول حتى وصف بأنه مقبرة الإمبراطوريات، هذه الوظيفة لم يستوعبها الأميركيون إلا متأخرين، فكما استنزفت أفغانستان السوفييت، نجحت إيران في توظيفها لاستنزاف الأميركان.
تدوير الصراعات والحروب في آسيا الوسطى لن ينتهي، وكذلك في اليمن المتقاطعة تضاريسه الصعبة وتكويناته القبلية والمذهبية بشكل كبير مع البلاد الأفغانية، هذا ما التقطه الإيرانيون والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين بعد ثورة الثلاثين من يونيو المصرية التي أسقطت حكم «الإخوان» فتبادر طرفا الإسلام السياسي للتوافق على تحويل اليمن كحزام استنزاف سياسي وعسكري واقتصادي للسعودية.
بالتأكيد اليمن مؤهل للعب دور أفغانستان، بل وقد يتفوق بمراحل. فاليمن بعد وحدة العام 1990 يصنف دولياً كواحد من المعابر الدولية لتجارة السلاح والمخدرات، كما يمتلك اليمن امتدادات نحو القرن الأفريقي يمكن توظيفها في مهنة الاستنزاف التي سيجد فيها أمراء الحروب ما يبحثون فيه من صفقات أكبر من صفقات الحروب الداخلية المعتادة في تاريخ بلد لم يستطع برغم كل المحاولات الممكنة في مساعدته التحول من القبيلة إلى الدولة.
المعطيات المتاحة هي استشراف للمستقبل، فلا يمكن إخراج اليمن من وظيفته التي يراها قريبة التحقق بتدوير الصراعات ولو على حساب الأمن القومي العربي، فهذه الوظيفة اعتاد عليها اليمنيون، ولم يكن انقلاب 1948 وانقلاب 1962 سوى سياق واحد في الصراعات المستدامة داخل البيت الزيدي الحاكم لليمن من القرن الهجري الثاني. محددات الصراعات واضحة وجلية، والأهم من ذلك أن التجربة أثبتت عدم قدرة الخارج على مساعدة اليمن في إخراجه من وظيفته تماماً كما هي أفغانستان.

قد تماثل حركة «طالبان» بخطها الراديكالي حركة «الحوثي». وقد يحصل لصنعاء ما حصل لكابول، بأن تتحول العاصمتان لمدينتين، تمثلان الوجهات المفضلة للمتأسلمين بطرفيهما السُني والشيعي، مخيف هكذا تصور غير أنه أكثر واقعية من حقيقة ما حدث عندما كانت قوات المارينز الأميركية تحاصر أسامة بن لادن في كهوف قندهار، ثم تأتي «طالبان»، التي تكفلت بحمايته وتحصل على حكم البلاد الأفغانية، سيناريو أقرب للفنتازبا منه للواقعية. ولهذا لا يمكن استبعاد أن ما حصل في أفغانستان سيحصل في اليمن، الذي تعرف قبائله كيف تحارب، ويعرف السياسيون فيه كيف يكذبون، ويعرف الجميع تمثيل مشاهد الضحايا ليفوز أمراء الحروب بالأموال وبالحصانة من الملاحقات القانونية على جرائمهم في حق البلاد التعيسة.

* كاتب يمني