يبدو أن لبنان دخل مرحلة تدويل فعلية أخطر من تلك التي اتُّهم بجلبها البطريرك الماروني بشارة الراعي، وذلك بعدما خسر اقتصاده «ثقة» معظم اللبنانيين والمجتمعين العربي والدولي، ويشهد الآن أزمةً سياسية مستعصيةً، تعرقل تشكيل حكومة إنقاذ، في ظل انهياركبير، وتدمير لمالية البلاد، وتعطيل مؤسساتها. لقد احترف حكام لبنان عملية «إضاعة الفرص»، ثم العودة إليها «مرغمين» بعد فوات الأوان.

ففي عام 2018، أتاح مؤتمر«سيدر» فرصة تمويل بـ11 مليار دولار، مقابل شروط بتطبيق إصلاحات بنيوية وقطاعية شاملة، وضمان أن هذه الأموال الممنوحة كقروض وهبات لن تذهب إلى جيوب النافذين وحاشيتهم. وهذا ما لم يتحقق، لأن القوى المهيمنة على السلطة، لا تريد وقف نظام النهب والمحاصصة، ولا أي مساءلة أو محاسبة. وبعد حركة 17 أكتوبر 2019، أجرت حكومة حسان دياب مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على ثلاثة مليارات دولار، وترتفع من مصادر خارجية إلى أكثر من عشرة مليارات.

لكن المنظومة السياسية رفضت شروط الصندوق، خصوصاً لجهة تعويم سعر صرف الليرة الذي كان لا يزيد عن 1700 ليرة مقابل الدولار، ورفع الدعم عن المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، بما فيها الوقود والكهرباء. ومع تواصل مسيرة الانهيار، دون إيجاد الحلول الناجعة، وفشل السياسيين في تشكيل حكومة قادرة على الإنقاذ.. ارتفع سعر صرف دولار بيروت حتى قارب 16000 ليرة. وأصبح من المتحتم تنفيذ شروط «التعويم» ورفع الدعم، تحت ضغط «فراغ» خزينة الدولة من المال. وبذلك تحول لبنان في عام ونصف العام من دولة تعاني أزمةً اقتصادية ومالية ونقدية إلى «دولة منكوبة».

وكنتيجة طبيعية لعدم تنفيذ الخطط الإصلاحية، تم استنزاف أكثر من 18 مليار دولار من احتياطي العملات الأجنبية، منها نحو 6 مليارات دولار على كلفة الدعم.ولمواجهة هذه التطورات السلبية، برزت «دينامية دولية» لتقديم مساعدات إنسانية تعتمد على المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني. وبرز في الوقت نفسه طرح جديد للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مفادُه أن فرنسا «تعمل تقنياً مع عدة شركاء من المجتمع الدولي لإطلاق نظام تمويل، يخضع لقيود دولية، ويتيح تمويل أنشطة وخدمات عامة أساسية.

وفي هذا السياق انعقد مؤتمر دولي في باريس لدعم الجيش، كونه يمثل عامل «الثقة» الوحيد، وذلك تأكيداً لرغبة الدول المشاركة في استمرار الحد الأدنى من الاستقرار، وإبقاء المؤسسة العسكرية على قيد الحياة. وكذلك مؤتمر الاتحاد الأوروبي المرتقب الإثنين المقبل في بروكسل، لبحث آلية تمويل طارئة للخدمات الأساسية، على أن تكون المساعدات مشروطة، وتحت سلطة رقابية دولية، منعاً لأي تجاوزات أو هدر للمال وعدم وصوله إلى مستحقيه الأساسيين.

لا شك في أن أي نظام دولي لتمويل الخدمات العامة، في ظل الانهيار اللبناني، يصب في خانة إضعاف القوى التقليدية الحاكمة ويعزز فرص التغيير السياسي. لكن ماذا يقصد الرئيس الفرنسي، حين تحدث عن «نظام تمويل» يهدف إلى استمرارية عمل «أنشطة أساسية» في الدولة؟..

وفي حال وجود رؤية فرنسية شاملة للحفاظ على استمرارية تلك الأنشطة والخدمات، هل يفتح ذلك البابَ أمام تحولات جذرية في لبنان، بما يمكّن من الاستنتاج بأن فرنسا وقوى دولية أخرى تستعد لإطلاق «إدارة دولية» لبعض القطاعات والمرافق العامة اللبنانية؟..الأمر الذي قد يؤدي إلى الخوف من فرض «وصاية» محددة وغير معلنة. *كاتب لبناني متخصص في القضايا الاقتصادية